رام الله- خاص قُدس الإخبارية: "حتى آخر نفس" صمدت "بيت نبالا" التي كانت تتبع لقضاء يافا المحتلة التابعة لسنجق مدينة القدس المحتلة، غير أن الكف لم تستطع أن تناطح المخرز أكثر، فسقطت القرية مثل مئات القرى الفلسطينية، وتحول "عسلها" إلى سفرجل بينما تفرق أهل القرية وتقطعت بهم السبل.
سمنة على عسل
في منزله الواقع بمنتصف مخيم الجلزون شمال رام الله، مازال الحاج إبراهيم محمود زيد (86 عاما) يستذكر طفولته في قريته بيت نبالا التي تحدها من الغرب مدينة اللد ومن الشرق قريتي قبيا وشقبا، ومن الشمال تحدها قريتي دير الطريف والطيرة ومن الجنوب تحدها الحديثة.
التحق إبراهيم بالمدرسة ليوم واحد فقط ثم خرج منها بسبب شجار وقع بينه وبين المدرس، لذلك فإنه لم يحظ بزفة على الحصان، إذ كانت من عادات قريتهم بأن من ينهي الصف الرابع - وهو أعلى صف في المدرسة - يزف على ظهر الحصان؛ ويشارك أهالي القرية عائلة الطالب فرحتهم بابنهم المتعلم.
[caption id="attachment_92519" align="aligncenter" width="800"] مدرسة بيت نبالا - هذا ما تبقى من القرية[/caption]ويقول الحاج إبراهيم: "لم تكن أراضي القرية تباع للغريب أو حتى لفلسطيني يقطن خارج القرية، حتى لو كان المبلغ الذي يريد دفعه أكثر من مبلغ ابن البلد، لذلك كانت مساحة القرية كبيرة جدا، وكان عدد سكانها يبلغ حوالي 4500 نسمة".
ولم تكن الأراضي آنذاك مسجلة بشكل رسمي بأسماء المواطنين، حتى تولى عبد القادر الحسيني، الذي كان يعمل آنذاك في دائرة تسوية الأراضي، تقسيم الأراضي وتسجيلها باسم أصحابها، وأعطى كل صغير وكبير حقه، فالحاج إبراهيم وحتى بعد "ضياع البلاد" مازال يرى بأنه لو لم تسجل الأراضي لضاع حقه، فهو حتى اليوم ما زال يحتفظ بالأوراق الثبوتية "الكوشان".
ويصف الحاج إبراهيم الحياة في بيت نبالا قائلا: "الحياة كانت جميلة، الناس مثل السمنة والعسل، كان هناك اكتفاء ذاتي في القرية إذ كانوا يزرعون الزيتون والقمح والسمسم والشعير والذرة والعدس والفول".
ويتابع أنه لم يكن هناك نقود متداولة بين المواطنين، بل كان التعامل برطل القمح والطحين وما إلى ذلك، "أذكر عندما كنت أذهب إلى الحلاق كنت أدفع له 5 أرطال قمح، والنجار كان يعمل الأبواب مقابل كيلة قمح".
ويشرح طقوس حفلات الزفاف في بيت نبالا مبينا أن عائلة العريس تقيم قبل الزفاف بثلاثة أيام احتفالات يتخللها الدبكة و"السحجة" ويشارك فيها كل أبناء القرية، وخلال ذلك تقدم للحاضرين الشاي والقهوة والحليب، بينما كانت بعض العائلات تذبح عجلا وتطعم كل من يتواجد ويشارك بـ"السحجة"، وتمنع مغادرة أي أحد حتى انتهاء العشاء، وتستمر الاحتفالات حتى منتصف الليل وأحيانا كانت تستمر حتى الفجر.
ويصحب الحاج إبراهيم المستمع لحديثه في جولة معه إلى القرية التي باتت اليوم ركاما بعد أن هدم الاحتلال كافة المنازل، ففي وسط البلد جامع واحد للقرية كانوا يسمونه "ولي"، يزدحم فيه المصلون في الأعياد وعند تشييع الجنازات، وفي القرية أيضا مضافة كانت محطة استقبال أي زائر سواء كان زائر للقرية أو حتى لمدينة اللد أو الرملة أو قراهما، وكان إكرام الضيف من عادات أهل القرية، يقول الحاج إبراهيم.
وفي القرية أربع عائلات هي: زيد، وصافي، ونخلة، والشراقة. أما منازلها فتتميز عادة ببساطتها وصغر مساحتها، وفي كل منها تخصص غرفة للحيوانات والتبن والشعير، وأخرى يُخزن فيها القمح والذرة والسمسم أي مونة الصيف أو الشتاء، وهي عبارة غن غرفة صغيرة تُبنى في الجزء العلوي من المنزل ويمكن الوصول إليها عن طريق سلم أو درج.
قاومت حتى آخر نفس
في شهر نيسان من عام 1948 بدأت الميليشيات الصهيونية المنظمة بالهجوم على مدن وبلدات فلسطينية، وعندما علم أهالي بيت نبالا بما يحدث في القرى المجاورة مثل العباسية وواد الخيار، خرج عشرات الشبان تقلهم سيارتان نحو تلك المناطق للمقاومة والتصدي للهجوم الصهيوني.
يقول الحاج إبراهيم: "كنا مدربين على استخدام السلاح، فبعد ثورة 36 كلّف عبد القادر الحسيني أشخاصا لتدريبنا على السلاح، وعندما بدأت العصابات الإسرائيلية بالسيطرة على القرى، كنا نخرج لأيام نقاوم هنا وهناك"، مضيفا أنه اشترى آنذاك "البارودة" بـ 35 دينارا، إذ كان بهذا المبلغ قادرا على شراء دونم أرض.. يتابع، "خرجنا نقاوم غير مكترثين لمصيرنا، كان هدفنا الوحيد طردهم واجبارهم على الانسحاب".
وفي ظل الامكانيات الضعيفة التي يملكها المقاومون، كانت الميليشيات الصهيونية المدربة والمسلحة تحقق تقدما وتسيطر على القرى والمدن، وهو ما دفع أهالي بيت نبالا للخروج في شهر حزيران، فيما بقي ما يقارب 40 شابا لحماية القرية حتى عودة الأهالي مجددا، كما كان الاعتقاد سائدا آنذاك.
بقي الحاج مصطفى سليمان مع فرقته التي أطلق عليها اسم "الزوبعة" مدة 12 يوما في القرية، وكان يعد لهم ما يسد جوعهم ويمكنهم من الصمود، لكن عندما اقتربت الميليشيات الإسرائيلية خرج الشبان لمقاومتهم، إلا أن كل رصاصة من المقاومين كانت تقابل بوابل من الرصاصات، وهو ما أجبرهم على الانسحاب.
يقول الحاج إبراهيم: "ما حدث لنا لم يحدث لشعب في التاريخ، خرجنا من أرضنا مرغمين، كنا نحارب وحدنا وتركتنا الجيوش العربية".
من بيت نبالا خرج إبراهيم نحو قرية بيتلو وبقي يتنقل لمدة ثلاث سنوات من قرية إلى أخرى، وفي عام 1951 تأسس مخيم الجلزون، لينتقل إبراهيم وعائلته إلى المخيم ويسكنون في خيام تحولت بعد ذلك إلى منازل متلاصقة. ويوضح أن المخيم سمي بهذا الاسم نسبة لإحدى ثلاث عيون كانت في المنطقة التي أقيم بها، وهي عين الجلزون وعين الجوزة وعين العصافير.
قبل بضعة أعوام تمكن الحاج إبراهيم وبرفقة صحفيين من زيارة قرية بيت نبالا، تجوّل في شوارعها عائدا بذاكرته إلى كل شيء كان مقاما فيها، حتى وصل إلى أعلى منطقة في القرية هناك جلس وبكى مثل طفل ضل الطريق. يقول: "زرت القرية، بكيت بحرقة، كانت مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن، عندما أصبحنا نزور قرانا! مررت بأرضي جلست مطولا حتى مغيب الشمس أكلت من ثمارها، كان له طعم خاص".
ويتابع، "كل ما أتمناه في حياتي أن أعود إلى قريتي، وأسلّم أملاكي لأولادي، فأنا ما زلت على أمل بأننا سنعود يوما ما".