شبكة قدس الإخبارية

انتظار!

محمد نشبت

يشق صوت آذان الفجر طبقات العتمةِ ليعانق أبواب السماء، أتحسس طريقَ القبلة هنا في حبسي الإنفرادي، أهم للصلاة، يشدّ انتباهي همهمةٌ بعيده تتّضحُ شيئًا فشيئا، الأسرى يهللون ويكبرون بصوتٍ جلي ومرتفعٍ حقًا، تاه خاطري هنيهة، تُرى ما يكون السبب الذي استدعى تلك الجلبة، هل هي عمليةٌ أثخنت الجيش الإسرائيلي؟! أم أن الحركة الأسيرة أحدثت تقدما واضحًا في مقارعة مصلحة السجون؟! ساعات قليلة حتى انتشر الخبر كالنار في الهشيم (حركة حماس أجبرت الإحتلال الإسرائيلي على صفقة تبادل للأسرى تستهدف بالدرجة الأولى أصحاب المحكوميات العالية).

أفترش أرض أسري، أُخرج من جيبي قصاصةً ورقية خُطت بها حروف ذهبية من سويداء القلب أقربها من أنفي أستنشق عطر حروفها فتزهر ذاكرتي بـ 15 عامًا مرّت ما قتلت الحب فينا أبدًا. يرجع أثر الصوت في رأسي مرارًا وتكرارًا: "بناءً على الدلائل، حكمت المحكمة على المتهم بمؤبدين و30 سنة لضلوعه في أعمالٍ تخريبيةٍ..." هكذا حكمت عليّ محكمة الاحتلال آنذاك أذكر وقتها أني أرسلت رسالة مطولةً لأهلي أحثهم فيها على الصمود والصبر، وأن أرض ذات الشوكة ليست مفروشة بالورود، وفي ختامها وجهت رسالةً خاصةً لمخطوبتي التي كانت ستزف لي بعد أسبوع من ذلك الموعد "أبلغوا صمود عن حالي وأني تركت لها القرار في ارتباطنا"

رغبتك في أن ترسل رسالة وتستقبلها أمامك طريقين: الأول عن طريق الصليب الأحمر، والثاني عن طريق البريد، وكلتا الحالتين هنا تحتاجان مدةً طويلةً تقارب الشهرين للإرسال والرد. حالة من الإرباك، والقلق، والخوف تملكتني من ردها، رغم إيماني العميق بها. الصراع الذي مزّق فكري حين يحكّم العقل المنطق، إنهما مؤبدان و30 سنة، مدةٌ تحتاج لعمرين وأكثر، ولكنّ القلب الذي يخفق بالحب لا يعرف المستحيل.

بعد شوق، وخوف شديدين، تصلني رسالتها، أتردد في قراءتها خوفًا وطمعًا، يغلبني الشوق ويجذبني ضياء حروفها إذ تقول: " من قرة العين إلى مهجة الفؤاد أما بعد فأنا ابنة رجل مطارد وأخت شهيدين، أتراني أنكص على عقبي أن أصبح زوجة أسير، والذي جعل القلب يتنفس اسمك لأنتظرنّك، وسنجتمع ولو بعد حين ... زوجتك المخلصة صمود"

يا الله 15 عاما مرت ولم ينقطع الأمل باللقاء، كانت أكثر من أستمد منه الصمود، رسائلها التي تزأر قوة ولقياها في دقائق الزيارة كانت أجمل ابتسامة حالمة رأتها عيناي، ثقتها المستمدة من حبل الله التي تربط على فؤادي ستقر عينك فلا تحزن، وسيُجازى الإحسان بالإحسان. كنت أستغرب من أين كانت تأتيها قدرة التحمل تلك لترضى بل وتثبّتَ رجلًا مجهول المستقبل! عمت السجون حركة مستمرة على مدار أشهر حتى استقر الحال بعد مفاوضات عنيفة على 1000 أسير من أصحاب المحكوميات العالية، موزعين على مختلف مناطق فلسطين، من الجليل شمالًا حتى رفح جنوبًا، في عرسٍ لم يسبقه فرحٌ مثله.

تلقى أهلي كما تلقيت خبر إدراج اسمي في الصفقة بدموع الفرح، بيني وبين حلم مضى عليه 15 عامًا أن أخرج من هذه الأسوار، مغادرة الحافلات، التوجه لمعبر رفح من بوابة معبر كرم أبو سالم، ثم منزلي جنة الأرض. فيما بعدت عرفت أن حالة الانتظار والفرح عند صمود لم يكن لها مثيل، كيف أخذت تبلور معنى اسمها على ملامح دربها، صمودٌ وانتصارٌ وفرح أبدى بعد صبرٍ وتحدٍ لقرار ارتباط اسمها بشخصٍ مثلي، لم يكن خيارًا سهلًا فقد واجهت في تلك الفترة مآسي العادات والتقاليد البالية في مجتمع ينظر للفتاة بعمر 23 على أنها عانس فاتها القطار.

تنفست عبق الحرية وبعد أسابيع من الترتيبات السريعة أجرى القدر ما كان قد أوقفه عند دعاء القلب الصادق، أقمنا حفلا بهيجًا أزاح معه سنوات طوال من الحزن والانتظار. فها أنا أجتمع وعروسي بعد أن غلقّت الأبواب، وقفت في حضرتها خاشعًا، همستُ لها حبًا أخرجت لها من جيبي عهدها المكتوب الذي أمدني بترياق الحب والصمودِ سنوات، أقبل يدها واعدًا إياها بحاضر جميل ومستقبل بهيٌ سنرسم معالمه معًا.