شبكة قدس الإخبارية

هذه النار لن تنطفئ!

هنادي العنيس

لم أستطع أن أتمالك نفسي، كل ما حدث معك، كان أكبر منك ومني.

حتى عجزي، كان ينهش بأطرافي، يرمي بي من حيث أنا، إلى أبعد بقعة في الأعلى، أرتطم بها، ويهتز قلبي مجددًا ليسأل: أينك الآن؟ ترى ماذا حدث بعد هذا كله؟

كان من المفترض أن أنام باكرًا، أن لا أبحث عن أخبار الآخرين يوم وقع الفيديو بين يدي، ومع أول مكالمة أجريتها مع زميلي الصحفي، بكيتك يا أحمد، شهقت كثيرًا، وعندما عرفت أنني ما زلت عاجزة حتى وأنا أبكيك بكل كلي، شهقت..

أنا لا أريد منك أن تبكي مثلي، إني ضعيفة، أنهار سريعًا مع أول صوت مرتفع، أخاف الصراخ رغم أني أجيد ممارسته، وأخاف أكثر ألا يسمعني أحد إن فعلت.

خمّن ماذا أيضًا؟ لقد سمعك الجميع، وعرفوا أن الذي أصابك هو ما أصابنا.

لستَ خائفًا، وهذا عزائي، لكن كيف السبيل إليك؟ وكل الحواجز تلفظني، تارة مع كلمة لاجئة، وأخرى مع أسئلة لا تنتهي عن هويتي وأوراقي!

نعم، أنا لا أملك شيئًا، أنا لا أحد لي، وأحيانًا كثيرة أنام ليلًا بلا وطن.

أنت من تبقى لأمثالي اليوم، أنت الذي تقر بأنك لا تتذكر، وأن رأسك ارتطم في ذلك اليوم اللعين، وأنك لا تعلم تحديدًا ما الذي حدث.

يزعجك كرجل صغير صوت صراخ المحقق، التهديدات التي تعرف أنها سترمى في أوراق بيضاء، والاعترافات التي ستقولها على الملأ ونحن نسمع عكسها، وندرك تمامًا أنك ابن هذه الأرض.

الوريث الوحيد لما تبقى من هذا الوطن، وصاحب قلبي بكبره ووجعه.

الآن، من يهون عليّ مصابي بك؟

ألا تسمعني؟ ربما لا تعرف حتى اسمي، حسنًا. لتبكي معي، لتصرخ، لكن أرجوك فقط ألا تدعهم يكسرونك، ألا تدعهم يكسروا داخل داخلي بك.. واغضب معي، اغضب!

أحمد مناصرة طفلًا وليس رجلًا، أحمد ضحية وليس بطلًا، لقد سُئِل عن الانتفاضة فأجاب: عن أي حرب تتحدثون؟

هو لا يعرف ما الذي يحدث خارج تلك البقعة التي يحتجز فيها، لقد شتم، ضرب، ونزف الكثير.

أحمد لا يتذكر شيئًا، لا يتذكر!

سيقول لهم ما يود كل منهم سماعه، سيقول لأنه لا يعرف ما الذي فعله، ولماذا ما زال هنا ولا يستطيع أن يحرك يداه.

أحمد ليس بطلًا، وليس اسمًا يضاف إلى هاشتاج "بهمش" الذي لا يجدي نفعَا الآن.

يهمنا أحمد، بكاءه، صراخه ووجعه، يهمنا ألا يضرب نفسه بيديه المقيدتين، يهمنا ألا يصرخ وهو ينتظر أن يأتي أحدهم لاحتضانه، يهمنا ألّا ييأس من الحياة وأن تصبح أكبر أحلامه أن يمارس طفولته، دون أن يأتي غريب ليسأله: لماذا أنت هنا؟

هو هنا لأنها أرضه، لكنه لا يتذكر، عن أي حرب تتحدثون؟

ربما عن أي وطن؟ أحمد فقد كل شيء في آخر تحقيق مسرب، وفقد معه أمله الأخير في أن يقول الحقيقة، حقيقة أنه بالفعل لا يتذكر.

أحمد سيقول ما يود أن يسمعه كل منهم، ومحكمة الجنايات الدولية ستأخذ هذا بعين الاعتبار جيدًا.

هاه، لقد اعترف بجريمته!، مؤبدات أخرى؟ أسير قاصر في سجن انفرادي بمعتقل آخر؟ ماذا أيضًا؟

سيخرج منا أحمد آخر، هذا الكره الذي ولدتموه في داخلنا لن يهدأ، هذه النار لن تنطفئ!

إن كان أحمد أسيرًا، مقيدًا، لا يستطيع أن يقول الحقيقة، وسترغمونه على ما تريدونه تمامًا، سيكون هناك أحدًا آخر، ويخرج لينتقم، لن يقع في أسركم، لن تقيدوه، بل سيقيدكم هو هذه المرة وستكون النتيجة إما عودة أحمد، أو فقدانكم لآخر تمامًا في مثل عمره، لا ذنب له، ونحن أيضًا لا ذنب لنا، ولا لأحمد

هكذا وصلت إليه الأمور، وأحمد.. لا يعرف مجددًا، عن أي حرب تتحدثون؟

* الكاريكاتير بريشة عماد حجاج.