القدس المحتلة – خاص قُدس الإخبارية: مساء يوم الثلاثاء 21/تموز/1992، ملأت الزغاريد أرجاء البيت وحي رأس العامود ابتهاجاً بقدوم أحمد، أخاً لأربع إناث أخريات.. وبعد 23 عاما، وبالتحديد فجر 14/شباط/2016 ملأت الزغاريد أرجاء مقبرة اليوسفيه بباب الأسباط، أثناء تشييع جثمان أحمد بعد أربعة أشهر من احتجازه داخل ثلاجات الاحتلال.
أحمد أبو شعبان (23 عاماً)، ابن حي رأس العامود في القدس المحتلة جنوب المسجد الأقصى، عرف بحبه الشديد للقدس بحواريها وشوارعها، كان يقول دائما، "بدكم إياني بتلاقوني بتمشى أو بركض بمنطقة سلوان وراس العامود"، تقول شقيقته رانية.
أحمد شاب محبوب ومعروف بطيبة القلب، مدلل عند والديه وشقيقاته، مميز جداً، ويُفرح قلب كل من يلقاه بكلامه اللطيف وضحكته الجميلة. تقول رانية، "أحمد معروف بين الكل بطيبته وخجله، لكنه بنفس الوقت لا يخاف ولا يهاب الاحتلال، فهو جريء معهم".
وعند حديثها عن هذه الجرأة تعود رانيا بذاكرتها وتروي، "في يوم من الأيام وعند عودة أحمد إلى البيت، سمع صراخ سيدة في منطقة قريبة، فنظر حوله ووجد مستوطنا يحاول الاعتداء على سيدة فلسطينية ونزع حجابها عنها بالقرب من باب مستوطنة مقامة على أراضي منطقة باب العامود .. فهب أحمد لإنقاذ المرأة وطفلها الرضيع من المستوطن، لتقتحم قوات الاحتلال في تلك الليلة منزلنا وتعتقله".
حكم على أحمد إثر اعتقاله بالسجن الفعلي لثلاث سنوات إضافة لسنتين مع وقف التنفيذ، وتنقل خلال اعتقاله الذي استمر حتى 10/آذار/2015 بين سجون "مجدو" و"ريمون" والرملة والنقب، وبعد سبعة أشهر وأربعة أيام من الإفراج عنه ارتقى أحمد أبو شعبان شهيدا.
ويبدو الفخر والاعتزاز واضحين في حديث انتصار عن شقيقها أحمد، وتروي نقلا عنه أنه هب لنجدة أسير في سجن النقب كان يتعرض للضرب المبرح من قبل عساكر الاحتلال، وقد كان ثمن ذلك نقله إلى العزل الانفرادي وإغراقه بالماء البارد الملوث وصعق جسده بالكهرباء، ما أدى لارتفاع درجة حرارته بشكل كبير لكن سلطات الاحتلال امتنعت عن تقديم العلاج له.
في ذلك الوقت وصل البلاد منخفض قطبي، وأخذت الثلوج تدخل عبر ثقوب سقف غرفة العزل الانفرادي لتبرد جسد أحمد الهزيل وتخفف درجة حرارته المرتفعة، وكأن عمرا جديدا كتب له بتدخل من القدر!
وتشير انتصار إلى أن الشاب الذي هب أحمد لنجدته في السجن قد بعث لهم برسالة بعد استشهاد أحمد وكتب فيها، "لما رفعني أحمد وأنقذني من بين الجنود الحاقدين، أحسست بأن ملاكا من السماء جاء لإنقاذي".
والدة الشهيد أحمد تستذكر أيام ابنها قائلة، "أحمد كان حنون كتير، كان لما يروح من الشغل الساعة 3:30 الفجر يشتري بيتزا، ويحكيلنا جبتلكم بيتزا لإنكم بتحبوها، يلا اصحوا عشان ناكلها سوا، وكان هو يقسم البيتزا ويطعمينا واحد واحد".
تضيف، "دايما أحمد كان يساعدني بشغل البيت، وكان يحب يعمل معي حلويات وخصوصا برمضان، كان يجيب القطايف ويحشيه ويشويه ويعمل القطر، صحيح كان يستعمل كل الصحون والأواني اللي بالمطبخ عشان يعمل الحلويات بس والله كانوا يطلعوا كتير زاكيين من تحت ايديه".
عصر يوم الأربعاء (14/تشرين أول) الماضي عادت أم الشهيد أحمد إلى البيت متعبة بسبب مرض السكري واستلقت على سريرها، فأتى أحمد واستلقى إلى جانبها لفترة، نامت الأم وبقي أحمد بجانبها لوقت غير طويل، ثم استيقظ مع عودة شقيقته انتصار إلى البيت.
وتقول انتصار، إن أحمد ناداها عند دخولها المنزل باسمها المحبب "نصورتي"، وسألها "شو بتوكلي؟" ثم أضاف، "اعمليلي كاسة شاي عشان أوكل معك". تعلق انتصار، "كانت تلك المرة الأولى التي يطلب بها أحمد كأس شاي مني لإنه دائم الاعتماد على نفسه، حضرت الشاي وأكلنا مع بعض، ورحت نمت بسريري".
خرج أحمد من البيت عند الساعة 6:30 متوجهاً إلى عمله في فندق بمستوطنة "موديعين" المقامة على أراضي القدس، فجأة قرب المحطة المركزية صرخ اسرائيلون "إرهابي إرهابي"، عندها أُعدم أحمد بأكثر من 10 رصاصات فارق على إثرها الحياة فورا، وفقا لرواية شهود عيان.
ويظهر الفيديو المتداول للحظات إعدام أحمد إسرائيليا يتحدث واصفا جريمة الإعدام: "الآن شاب تم قتله أمام عيوني، أطلقوا عليه 10 رصاصات، لم يقترب من أحد ولم يكن بحوزته سكين، فقط جميعهم صرخوا إرهابي إرهابي، والحارس أطلق النار عليه". في تلك اللحظة استيقظت والده أحمد من نومها مفزوعة وأخذت تدعو الله أن يحميه ويحفظه.
واحتجزت قوات الاحتلال جثمان الشهيد أحمد لـ124 يوما داخل ثلاجاتها، ثم سلمته بعد مماطلات عديدة وبشروط ظالمة، وهي حضور 14 شخصاً فقط من أقرب المقربين للشهيد لتشييعه ودفع غرامة مالية قيمتها 20 ألف شيكل، وقد شيع أحمد محمولاً على أكتاف شقيقاته إلى مثواه الأخيرة بالزغاريد.
يقول والد الشهيد أحمد، "أحمد ما مات، هو بس روحه صعدت الى السماء، أحمد بزورنا وبشوفه وبتكلم انا وياه، والحمدلله شو بدنا أحلى من هيك، ربنا كرمنا احنا وياه، بس بنطلب الصبر من الله".
رحل أحمد شهيداً، لكن انتصار ورانية ما زالتا تنتظران عودته قبل الفجر من عمله، دون أن تغمض عينهن ولو للحظة، على أمل عودته حاملاً البيتزا المفضلة.