شبكة قدس الإخبارية

مئة عام من المنع

رشا حرز الله

فلسطين المحتلة – قدس الإخبارية: أدار السائق مقود سيارته، بعد أن أجرى اتصالات مع زملائه، يستعلم من خلالها عن وضع الطريق بين مدينتي رام الله ونابلس، "ألو.. فاتحة الطريق ولّا شو؟.. يعني ألِف من أوصرين؟.. طيب ماشي".

أغلق هاتفه، والتفت نحو الركاب السبعة، ليبلغهم أن حاجزي زعترة وحوارة جنوب نابلس تم إغلاقهما من قبل جنود الاحتلال، لذا فالسائق مضطر لسلوك طرق التفافية بديلة، تمر عبر قرى جنوب نابلس: قبلان وأوصرين ثم بيتا، وصولا إلى حاجز عورتا، ومنه إلى المدينة، "لكن يا إخوان انتو عارفين إنه الأجرة بترتفع في هذه الحالة، لأن طريق اللفة بتوخذ وقت أطول، وتستهلك سولار"، هز الركاب رؤوسهم بالقبول، وقال أحدهم "توكل على الله، المهم نوصل بالسلامة".

واصل قيادته دون معيقات تذكر، سوى أزمة سير خفيفة عند مفرق واد "عيون الحرامية" شمال رام الله، والذي كان سابقا حاجزا عسكريا إسرائيليا، أزاله الاحتلال بعد أن نفذ فلسطيني من بلدة سلواد يدعى ثائر حماد، عملية إطلاق نار على الحاجز، أدت لمقتل عشرة جنود إسرائيليين، في 3 آذار/ مارس 2002.

الركاب صامتون، منهم من أرخى رأسه للخلف بعد أن غلبه النعاس، بينما صوت الراديو الخافت لم يمنع صوت أم كلثوم من أن يخترق مسامعنا، وهي تغني "هل رأى الحب سكارى مثلنا.. كم بنينا من خيالٍ حولنا".

السيارة في منتصف الطريق، والساعة تشير إلى الرابعة والنصف مساء، استفاق النائمون على رنين هاتف السائق، على الجهة الأخرى أحدهم يبلغه بأن الطرق الالتفافية المؤدية إلى نابلس صعبة، وقد يستغرق اجتيازها ساعات بسبب الأزمة التي سببها إغلاق حاجز زعترة.

ارتفعت وتيرة صوت السائق وتأفؤفاته، وهو يشتم ويلعن الاحتلال "إحنا حياتنا مرمرة أقسم بالله يا رجل"، وقابله الركاب بالتذمر ذاته، فذاك تأخر على موعد مع طبيب العظام، وآخر على عائلته.

"طول بالك يا ابني، لو كنت عايش بالقدس عنا شو كنت بتعمل؟" جاء الصوت من المقعد الأخير في المركبة، رجل أشيب يبدو في منتصف الخمسينيات، قصد نابلس لزيارة أقرباء له، قال إنه من سكان جبل المكبر، شرق القدس المحتلة.

رحب به السائق "أهلا وسهلا يا عمي"، ووجدها فرصة ليسأل عن حال المدينة التي لم يزرها منذ أكثر من 15 عاما، ليأتيه الجواب مختصرا في تنهيدة كادت تمزق أضلاعه، ويكون أول ما تلفظ به بعدها، "رح يطردونا عن قريب من كل الأحياء العربية، رح يطوقوها بجدار يفصلونا عن الأحياء اليهودية، إحنا منصير هيك خارج القدس، رغم إنه معنا هوية زرقا، والله ما إحنا عارفين شو رح يصير فينا، ما بدهم ولا عربي بالقدس، بدهم يضلوا لحالهم فيها يسرحوا ويمرحوا، بعيد عن عينهم هاذ الكلام".

ساد السكون من جديد، في الوقت الذي كانت فيه السيارة تواصل شق طريقها في قرية قبلان، المزدحمة هي الأخرى، وبالنظر يسارا إلى مفترق حاجز زعترة، مئات من السيارات مصطفة في طابور لا نهاية له، تنتظر أن يتعدل مزاج الجنود ليسمحوا للناس بالمرور، يتذرعون أن الإغلاق بسبب الأعمال على طريق حوارة "ليش بسمحوا للمستوطنين يمروا طالما السيارات بتعيق حركة العمال والجرافات"! تساءل السائق.

أشار بيده نحو سيارة عمومية كانت من ضمن السيارات المصطفة "هذا الشفير سبقني بساعة، بعده واقف مسكين، لسه قدامه طريق طويلة، اللي نيته مش صافية هيك بصير فيه"، ضحك الركاب، وسرعان ما حملق السائق العشريني في المرآة، موجها سؤاله للمقدسي "صحيح يا عم قسموا الأقصى زماني ومكاني"؟.

هز الرجل رأسه بالإيجاب، "يا ابني حتى لو ما أعلنوا بشكل رسمي، فهو موجود على أرض الواقع، كل يوم بقتحموه المستوطنون بالعشرات من بعد صلاة الفجر، لغاية صلاة الظهر، بحماية الجيش.. الله وكيلك بسبوا علينا وإحنا مارقين.. والله وضع باب العامود محزن، الجنود اللي واقفين هناك بتعاملوا مع الناس بوحشية، والتفتيش المهين، الحياة داخل القدس يا ابني بتقصر العمر بسبب الاحتلال".

تمايلت أجساد الركاب يسارا، عندما انعطفت المركبة يمينا، نحو طريق فرعية ترابية ضيقة تصل بين قريتي زعترة وبيتا، محظور على الفلسطينيين المرور منها، بأمر من جيش الاحتلال، وبالإمكان معرفة ذلك من إشارة المنع التحذيرية، التي وضعها الجنود على قطعة جدار اسمنتية عند مدخلها.

بدا على السائق التوتر، وأسرع من حركة مركبته، ليتوارى بسيارته عن أنظار جيب عسكري إسرائيلي، كان يقف على مسافة قصيرة من المكان، هنا، بدأ السائق بسرد حادثة حصلت قبل سنوات، بعد أن حاول أستاذ مدرسة يدعى محمود صنوبر في العشرينيات من عمره، فتح هذه الطريق.

"هذا الأستاذ من قرية يتما، كان يدرس بمدرسة اللبن الشرقية، طلع الصبح بدري بسيارته، ومعو أساتذة كان بيوخدهم بطريقه، صحي الصبح على الفجر وأخذ الطورية معه، وحاول يفتح الطريق عشان يسهل على حاله اللفة، رصده الجيش اللي كان بالمنطقة، طخوه براسه واستشهد على طول".

شد الحديث الركاب، اكتفى بعضهم بالحوقلة: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وتدخل أحدهم في محاولة لكسر جو الحزن التي أضفته قصة السائق "طيب استعجل طنيب عليك، ما بدنا الليلة نكون خبر عاجل على الأخبار، إمي الحجة ما فرحت فيي لسه"، فضحك الركاب باستحياء.

نصف ساعة الوقت المتبقي للوصول من أصل ساعة ونصف استغرقتها الطريق إلى نابلس، بعد أن كانت قبل الإغلاق لا تتجاوز الساعة، تبادل خلالها الركاب أطراف الحديث، ليسارع السائق مقاطعتهم "هنا في حسبة بيتا صادروا ستة محلات لبيع الخضار، بتحججوا أنها بنيت بدون ترخيص.. بس من هاللحية إذا ما عملولنا اياها طريق بديلة عن حوارة، عشان يخففوا على المستوطنين الأزمة".

لم ينبس أحد ببنت شفة، تجاوزت السيارة الحاجز المقام على مدخل قرية عورتا قرب نابلس، الذي لم يكن أفضل حالا من حاجز زعترة، طابور آخر من السيارات، وتفتيش دقيق، أعاق حركة المرور.

أعاد السائق النظر في المرآة مرة أخرى نحو الرجل المقدسي "عم، المرة الجاية إذا أجيت على نابلس بدي كعك من القدس".

اقترح المقدسي على السائق أن يأتي هو الى القدس، قاطعا له وعدا بألا يترك مكانا في المدينة إلا ويصطحبه إليه، ابتسم السائق وأجابه: "إن شاء الله بعد مئة سنة رح آجي يا عم، لوقتها بكونوا رفعوا المنع الأمني عني"، هكذا أبلغه ضابط إسرائيلي ذات يوم "أنت مرفوض أمنيا لمدة مئة عام".

وفا