تميل الشمس للمغيب تجتهدُ ما استطاعت في أن تضمَ السماء حتى آخرِ طيفٍ في جدائلها الملقاة على ساحل الكون الأزرق، يزدان الأفق بلون حبةِ الخوخ المنتقاة، لوحة توحي بنهايةٍ وشيكةٍ ليوم متقلبِ المزاج.
يجذب انتباهي دقةُ قلبٍ بعيدة من ناي يختلط فيه الحزن والفرح، ألملم موسيقاه بقلبِي ليقودنِي حسّي إليه. رجل يفترش الأرض ويلتحف السماء يعزف ترنيمة ترسلُ دفئها للبحر طمعاً برزق وفير، يمتهن الصيد منذ أن كان طفلاً، طويل القامة أسود العينين ذهبي الشعر والبشرة، خيوطِ قوس الشمس وأملاحهِ المصفاة صبغت وجهه بمزيجِ الحناء الحمراء والسمراء.
ألقيت عليه تحية مني وأتبعتها بابتسامةٍ شبه مرتجفة، أما هو فبادر مرحباً بإماءةٍ من يده، التي لا تحمل الناي، وكأنه يعلمنِي بأن يد الناي لا تُخفِضُ نبضها أبداً، أفسح لي مكاناً للجلوس على قطعة من صفيح صدئ بالحزن يحاول الحبُ والأمل أن يقشر ملامح حزنه ما استطاع، تحدثنا كثيراً وكان الناي يسمعنا عشقهِ للبحر، متعة الصيد، مقدار الجرأة والصبر الذي يتحلّى به عندما يشق طريقه بمساحة لا تزيد عن ستةِ أميال بحرية.
قد يبتسم له القدر في ساعاتها الطوال فيرسو بها في عرض البحر عوضاً عن ساعات احتجازه من قبل البحرية الإسرائيلية، سرّب لأعماقِي وجع لقمة العيشِ وألم الجوع الذي يفتك بجسد أطفاله إن عاد من رحلة طويلة دون أن تغازل شبكته ولو حبة سردين واحدة، أرخى الليل سدوله فجمعنا ما استطعنا مما هو قابل للاشتعال لنضفي جواً من السحرِ يحاكي هذا الجمال، موج وناي ونار وبرد، يتناوبون في احتساء كأس الدفء من جلستنا، بيننا نطمع في أن يكونون لنا وهبةَ الروح. تسكن حركاته، يغمض عينيه، يأخذ نفساً عميقاً يعزفُ ترنيمةً توحي بالصمود، مال لها عقلي قبل أن يذوب القلب لها حباً، هي لأبنائه كما أشار، "صابر وصبري وصمود"، يعزفها لهم ليغذي أرواحهم إن لم يجد ما يغذي به أمعائهم.
أسأله عن أسوأ ما تعرض له في البحرِ فيجيب مبتسماً، يكفيني من الحياة ما تباركتُ بهِ من سرمدية جماله الآخذ، إلا أنهُ إن كان لا بد من حدثٍ " فأنه وذات يوم ضرب الجوع وتده في بيتي حتى كاد يفترسنا فما كان مني إلا ان أخذت نايي واتجهت بحسكتي تجاه البحر في منتصف الليل فالبحر دائم العطاء ليلًا، إن اجتنبت المنغصات، وقتها تخطيت الثلاثة ميل فأنا أعرف أن هذه المساحة لن توفر لي ولو طحال بحر.
أسير دون إنارة خشية أن تجذب الإنارة الزوارق البحرية الإسرائيلية، فيأخذونني سريدينهم هذا المساء!! للجوع أهون ألف مرة من الوقوع بشباكهم.. كانت تقول جدتي " إلي بخاف من البعبع بيطلعله " اصطدم مقدم الحسكة بشيء صلب، وما هي إلا ثواني حتى تحولت البقعة التي أمتطيها الى كتلة من نار من شدة الإنارة، تبعها إطلاق نار كثيفٍ في الهواء، خالطها عديد من عبارات العبري، كمن أصابه مس وقفت رافعاً يداي في الهواء، مستسلمًا لم أتِ بحركة خوفاً من رصاصةِ تستقرُ بالرأس فيموت أبنائي من بعدي جوعاً وقهراً.
صعدت على متن زورقهم فانهالوا عليا ضربًا وشتمًا، ومع أمل خطوط الشمس تركوني، وكأن الله نظر لحال أبنائِي من بعدي فأوحى أن اتركوه وعدت مجدفاً إلى أن وصلت البيت وقد كسبتُ حريتي، اعتلت معالم الألم تعابير وجهي! فحاول كسر حدتها بسؤاله عني والبحر.
أُمسك بيديّ غصنٌ جاف، أقلبُ به جمر ما تبقى من نار، أتنهد متحدثاً باقتضاب ما عاد في هذا البلد أي أمل يا عمي، أنا كهذا العود ذبل في الحلم واستحال في خضار العطاء لخشبٍ يابس موئلهُ الي نار لِيحرقَ، ثم جمرٌ فرماد تتجاذبَه الرياحُ كيفما شاءت كما هو حال هذا الرماد.
وكزني بنايه الممتلئ بالحياة، ثم قال يا فتى بالأمل نحيا والله لم يخلقنا عبثاً انظر لهذا الرماد لو أحسنت اليه... لو أحسنت اليه لأشتعل مجدداً، هو بحاجة فكر بالذي يحتاجهُ فقط، قش أو ورق وقليل من النفخ وكثير من الصبر، لتزهر روحه من جديد.
سحبني من يدي فانتصبنا وقوفاً ثم أشار إلى حيث تشرق الشمس وقال انظر بني إني سأعلمك كلمات، ستراها نافذة نفق الحياة فاحفظها، مادامت الشمسُ تبتسم ليوم جديد وتبددُ ظلمة يوم مضى فأعلم أن جذوة الأمل لن تخبو أبدا، ما دامت الحياة والرزق بيد ملك السماوات والأرض فلا تبتئس بما كان يصنع، إن بين أناملك يحيا عالم من الألحان فأطلق عصافيرك وغنّ، ثم التفتَ إلى قلبهِ وعزف مبتسماً لتشرق روحي بصباحٍ ليس لهُ مثيل.