غزة – خاص قُدس الإخبارية: قضى دقائقه الأخيرة بين أصدقائه على دوار "بني سهيلا" شرق مدينة خانيونس، ثم توجه لأقرب محطة وقود واشترى لترين من البنزين ليحرق نفسه، وأمام أنظار الجميع أشعل يونس البريم (32 عاما) النار في جسده، ما أدى لإصابته بحروق من الدرجة الثالثة.
حدث هذا في غزة الشهر الماضي، لكن هذه القصة التي حاولنا رصدها لم تكن الوحيدة في القطاع خلال السنوات الماضية، فمن يقدمون على الانتحار سواءً تم إنقاذ حياتهم أو فارقوا الحياة، تبقى قصصهم حبيسة الصدور وقابعة في الظل لا يتم الكشف عنها بسهولة، وأحيانا لا تجد من يكشف عنها أبدا.
تعذب مرات قبل أن يعذب نفسه بالنار
استمرت محاولات إنقاذ حياة يونس البريم في مستشفى ناصر لعدة أيام، لكنها باءت بالفشل أخيرا وأودت الحروق بحياة يونس. وقد أفاد مصدر مقرب من يونس طلب عدم ذكر اسمه، أن يونس كان يعاني من أمراض مزمنة في العمود الفقري نتيجة كسرٍ أساء أطباءٌ علاجه، ما أدى لتفاقم المشكلة لتتطور إلى ورم في العمود الفقري أصبح يؤرق يونس صحيا ونفسيا وماديا.
ويضيف المصدر، أن الوضع الصحي ليونس حرمه من العمل، ولم يحصل في الوقت ذاته على الرعاية الكافية من الشؤون الاجتماعية، فلاحقه الفقر وساءت علاقاته حتى مع أشقائه وتعرض قبيل انتحاره لتهديد بالضرب من أفراد مقربين منه بعد خلاف حاد نشب بينهم، (تتحفظ شبكة قدس على توضيح هوية من هددوه بالضرب وعلاقة يونس بهم).
وتحدث يونس كثيرا عن تفكيره بالانتحار أمام أصدقائه وتحديدا قريبه الذي تحدث لـ قُدس الإخبارية، مبينا، أن الجميع لم يتوقع أن تنتقل الفكرة من نطاق الحديث العادي لتدخل حيز التنفيذ، حيث يعرب اليوم عن صدمته الشديدة من وفاة صديقه المقرب، ويعبر عن غضبه من كل من دفعوه بشكل غير مباشر إلى الانتحار.
إحراق يونس لنفسه تبعه تصوير جسده وقد بدت عليه حروق جسيمة، وقد تم تناقل صورة يونس عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي اشتعلت بحالة من الغضب رافقتها انتقادات للوضع الاقتصادي والسياسي السيء في فلسطين وتحديدا في قطاع غزة، واستنكار للتهميش الذي يعاني منه الشباب في القطاع في ظل استفحال نسب البطالة خلال عام 2015 لتصل لنحو 42%، حسب المركز الفلسطيني للإحصاء .
ليست ظاهرة لكن أمرا ما مقلقا يحدث!
وشهد شهر شباط الماضي سبع محاولات انتحار في قطاع غزة وحدة، أودت بحياة ثلاثة أشخاص خلال فترة وجيزة، الأمر الذي أثار ضجة بين الفلسطينيين وتحديدا أبناء القطاع، وسط تفاوت في الآراء بين من رأوا أن ما يحدث نتيجة طبيعية و"حل أخير" بسبب الوضع الاقتصادي السيء، ومن عارضوا الفكرة بشدة وأشاروا إلى الموقف الشرعي الذي يحرم الانتحار.
وحسب مركز الميزان لحقوق الإنسان فإن عام 2013 بأكمله شهد سبع حالات انتحار، أي أن محاولات الانتحار خلال ذلك العام كاملا تساوت مع محاولات الانتحار في الشهر الثاني من عام 2016، ما يشير إلى أن الأوضاع النفسية والاجتماعية لأبناء القطاع آخذة في التأزم.
ويرى الأخصائي النفسي درداح الشاعر أنه لا يمكن الحديث عن الانتحار على أنه ظاهرة حتى الآن، كون القطاع لم يشهد حالات انتحار جماعي أو تسجيل أعداد كبيرة، لكنه استدرك محذرا بأن ارتفاع عدد حالات الانتحار مؤخرا يشير لوضع سيء نفسيا واجتماعيا واقتصاديا ودينيا.
ويوضح الشاعر أن المؤثرات الخارجية قادرة على تفعيل الانتحار من خلال مشاهدة الأعمال التلفزيونية التي تعرض مشاهد لحالات انتحار، الأمر الذي يثري الإنسان بخبرة في طرق الانتحار ويحييها في العقل الباطني للإنسان.
وينوه الشاعر إلى أهمية أن تقوم الجهات الرسمية بدورها في حل الأزمات القائمة، إضافة لواجب مؤسسات المجتمع المدني التي من دورها إطلاق مبادرات توعية للشباب وتوفير طرق علاجية سليمة للمشاكل النفسية التي باتت تطفوا على السطح .
جريمة يعاقب عليها القانون
ويوضح الناطق الإعلامي باسم وزارة الداخلية في غزة أيمن البطنيجي، أن محاولة "إزهاق الروح" جريمة يعاقب عليها القانون، مبينا، أن الشرطة تخضع جميع الأشخاص الذين يحاولون الانتحار ويفشلون للتحقيق، إلا أنها لا تتابع الحالة بعد ذلك.
ورفض البطنيجي الكشف عن عدد الحالات التي تحاول الانتحار يوميا، مكتفيا بالقول إن الجهات المختصة تعالج الأمر بشكل فعال، ما يشير إلى أن محاولات الانتحار تزيد عن الحالات السبع التي تم الكشف عنها وتوثيقها إعلاميا.
ويشير البطنيجي إلى أن الوضع الاقتصادي السيء لم يكن الدافع الوحيد لمحاولات الانتحار، "وإنما قد يكون الانتحار محاولة من الشخص لعرض مشكلته بهذه الطريقة ولفت الأنظار إليه"، حسب قوله.
ويؤكد البطنيجي على دور الجهات غير الحكومية في حل المشاكل الاجتماعية، وذلك من خلال توفير جلسات الدعم النفسي والمبادرات الشبابية التي تهدف لإظهار مخاطر الانتحار، إضافة لاستيعاب الحالات النفسية السيئة ومعالجتها .
تجدر الإشارة إلى أن الانتحار شكل أيضا أسلوبا احتجاجيا في كثير من الحالات خلال الأشهر الماضية، وتحديدا عن طريق محاولة حرق النفس، وقد كانت آخر الحالات التي تم الكشف عنها للانتحار احتجاجا داخل شركة الكهرباء بغزة بعد خلاف على فاتورة الكهرباء بين أحد الزبائن وموظفين بالشركة قبل أيام.