عادت لتطفو على السطح مجدداً قضية حل السلطة الفلسطينية، حيث الكثير من الأوساط السياسية والحكومية الإسرائيلية وكذلك الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية بدات بعقد اجتماعات علنية وسرية للبحث في سيناريو وخيارات حل السلطة الفلسطينية.
ولعل الأوضاع التي تملي مثل هذا النقاش مرتبطة بجملة من العوامل والظروف والتطورات الداخلية والخارجية، فعلى الصعيد الداخلي هناك انسداد واضح في الأفق السياسي وكذلك الوضع الأمني الإسرائيلي غير مستقر ونتنياهو رغم الإجراءات والممارسات القمعية لم يستطع وقف الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، والإجراءات والعقوبات الجماعية الإسرائيلية خلقت اوضاعا وظروفا اقتصادية صعبة للسكان الفلسطينيين، والسلطة الفلسطينية بالكاد تفي بالتزاماتها المالية.
أما التطور الأبرز في هذا الجانب؛ فـ"إسرائيل" ترى في التطورات العربية والإقليمية ما يخدم مشروعها السياسي، من حيث وجود بديل عربي واقليمي يقبل أن يملأ الفراغ الذي قد ينشأ وبأداة فلسطينية.
فـ"إسرائيل" وجدت في تصاعد الخلاف الروسي- التركي والعقوبات الروسية الاقتصادية والتجارية والسياحية والدبلوماسية، فرصتها لكي تعيد دفء الحرارة للعلاقات الإسرائيلية – التركية التي توترت بعد الهجوم الإسرائيلي على سفينة مرمرة وقتل وجرح عدد من المواطنين المتضامنين الأتراك على متنها.
وبسبب الأزمة السورية والحرب السعودية على اليمن والخوف من ايران دوراً ونفوذا في المنطقة، وجدنا بأن العلاقات الخليجية – الإسرائيلية بدأت تخرج من الإطار السري الى الإطار العلني، وتأخذ أشكال التنسيق والتعاون الأمني والعسكري، ولذلك ترى "إسرائيل" بأن الظرف ناضج لكي يكون هناك بديل عربي أو إقليمي يتم من خلالهما استبدال السلطة الفلسطينية الحالية بسلطة أخرى، وبما يحقق مشروع نتنياهو للسلام الاقتصادي في تأبيد وشرعنة الاحتلال مع تحسين شروط وظروف حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال بأموال من الصناديق العربية والدولية.
الرئيس عباس اعاد في خطابه أمس التاكيد على أن السلطة الوطنية منجز وطني، ولن يسمح للإسرائيليين بتدميره، وهو يقول بشكل واضح انه لن يحل السلطة الفلسطينية، وهذا يضع الكثير من علامات الاستفهام والتساؤل على تنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني التي دعت في اذار من العام الماضي الى مراجعة العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية مع "اسرائيل".
وفي ظل موقف السلطة الفلسطينية الواقع بين المطرقة الشعبية بضرورة الدعم العلني والمباشر للإنتفاضة الشعبية وإسنادها والعمل على مراجعة او حتى وقف الاتفاقيات الأمنية والسياسية والاقتصادية مع "اسرائيل"، وكذلك سحب الاعتراف المتبادل ما بين منظمة التحرير و"اسرائيل" بسب رفضها الإلتزام والتطبيق للاتفاقيات الموقعة، وبين السنديان الإسرائيلي المتهم للسلطة بعدم قدرتها على وقف الانتفاضة الشعبية، بل انها تساهم في التحريض على استمرار ما تسميه دولة الاحتلال بالإرهاب.
وجاء مفاجئاً أن تسرّب الصحافة الإسرائيلية أواخر تشرين الثاني وأوائل كانون الأول، أنّ المجلس الوزاريّ الإسرائيليّ المصغّر للشؤون الأمنيّة والسياسيّة ناقش سيناريو انهيار السلطة الفلسطينيّة، وسبل التعامل الإسرائيليّ مع هذا الاحتمال في حال حصوله، مع وجود وزراء إسرائيليّين مؤيدين ذلك، في ظل اعتبارهم أن انهيار السلطة فرصة تخدم مصالح إسرائيل، وطالبوا حكومتهم بعدم منع انهيارها، لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، أعلن أنّه لا يتمنّى انهيار السلطة، خوفاً من البدائل السيّئة على الأمن الإسرائيليّ.
انا لا أرجح بأن لا "اسرائيل" ولا السلطة ولا دول العالم معنية بحل او تفكيك أو انهيار السلطة الفلسطينية، فهناك مصلحة امريكية – اسرائيلية – أوروبية غربية وحتى لبعض الأطراف العربية والإقليمية، بأن حل السلطة وتفكيكها يكون فقط حال نضوج وتوفر البديل العربي والإقليمي، وحتى تتوفر ظروف نضج ذلك البديل او بروز تطورات لتحولات وتبدلات او تغيرات تفرض أشكالاً جديدة من الحل او الصراع، فإن السلطة الفلسطينية لن تقدم على حل نفسها أو التفكيك لمشروعها، فهي ترى بأن حل السلطة في الضفة الغربية لن يستتبعه حل لها في قطاع غزة، حيث حماس هي من يسيطر على القطاع، وبالتالي يتحول القطاع الى إمارة خاصة بحماس، وهذا يعني تحقيق لشرط ورؤية نتنياهو بالحلول المؤقتة، وتعزيز لسلطتها في الضفة على حساب حركة فتح.
ناهيك عن أن المنتفعين من هذا المشروع من خلال الطبقة التي نمت من داخل السلطة وخارجها، وتم ربط أغلبها بمؤسسات النهب الدولي (البنك وصندوق النقد الدوليين)، سيقاتلون بشراسة من اجل عدم حل السلطة، وكذلك أبناء الأجهزة الذين يرون بالسلطة اكبر رب عمل ومشغل لهم، وهؤلاء لن يكونوا مع خيار حل السلطة.
وحل السلطة يعني بان هناك استحقاقات كبيرة ستترتب على ذلك بأن قيادة هذه السلطة سيصبح رأسها مطلوباً،وستدفع ثمن موقفها دماً وسجوناً ومطاردة، فهل مثل هذه السلطة مستعدة لدفع هذا الثمن..؟؟ وكذلك الواقع والحاضنة العربية التي كانت متوفرة للسلطة والمنظمة عربياً سابقاً، ليست متوفرة الان فالكثير من العواصم العربية من عمان حتى تونس، قد لا تفتح أبوابها امام قيادة السلطة.
أساس وجود السلطة ووظيفتها والتزامها الأساسي هو التنسيق الأمني، وعدم قيامها بهذه المهمة وكذلك مراجعتها لاتفاقية باريس الاقتصادية، يعني عملياً حل للسلطة، وقيام “إسرائيل” بتفكيك تلك السلطة، وهذا يعني دخول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي مرحلة أكثر تصعيداً ودموية.
وهنا قد تقدم اسرائيل على عملية شبيهة بعملية ما سمي بالسور الواقي في عام 2002، وتقيد حركة الرئيس عباس كما حصل مع الرئيس الشهيد أبا عمار، وهنا ستقوم "اسرائيل" بتدمير كل مقرات ومؤسسات السلطة، وبما يلغي وجودها بشكل نهائي، وما يترتب على ذلك من اوضاع تعيد السيطرة المباشرة للاحتلال على كل الأوضاع ومفاصل الحياة في الضفة الغربية.
وهنا سنكون أمام وضع سياسي وأمني جديد يعيدنا إلى ما قبل العام 1994، حين بسطت أول سلطة وطنية فلسطينية أقدامها على أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بموجب اتفاق أوسلو.
"اسرائيل" تدرك تماماً بأن حل السلطة الفلسطينية او تفكيكها عبر الضغط الأمني والعسكري والمالي والاقتصادي يعني البحث عن بديل، وهذا البديل في ظل محيط عربي مضطربة اوضاعه، قد يكون قوى مغرقة بالتطرف مثل "داعش" أو متفرعاتها، ناهيك عن حالة الانفلات الأمني وغياب السلطة، ومما يستدعي عودة الإدارة المدنية، والمسؤولية الإسرائيلية الكاملة عن كافة شؤون وحياة الفلسطينيين المدنية والخدماتية.
الانزياحات اليمينية في الحكومة الصهيونية المتطرفة ودعوات العديد من قادت احزابها وعلى رأسهم "البيت اليهودي" بقيادة نفتالي بينت واوري ارئيل وغيرهم الى ضم الضفة الغربية الى اسرائيل ودفن اوسلو، وانسداد الأفق السياسي والمأزق الذي تعيشه الحكومة الإسرائيلية على ضوء تصاعد الانتفاضة الفلسطينية، التي ادخلت المجتمع الإسرائيلي في حالة من الهوس والخوف والهستيريا وفقدان الأمن الشخصي، وما تعيشه السلطة الفلسطينية من اوضاع وظروف تفقد فيها السيطرة وتتعمق ازمتها الإقتصادية، وتتراجع هيبتها والثقة بها من قبل الشعب الفلسطيني، هي التي دفعت بنتنياهو وتسيفي ليفني من المعسكر الصهيوني وقادة الأجهزة الأمنية والجيش، وكذلك وزير الخارجية الأمريكي في منتدى سابان لسياسات الشرق الأوسط، الى اطلاق تحذيراتهم ودعواتهم الى تقوية السلطة الفلسطينية وتقديم الدعم لها، لأن انهيارها سيكون البديل عنها أكثر سوءاً وتطرفاً لـ"إسرائيل".
لجنة الخارجية والأمن الإسرائيلي و"الكابينت" الإسرائيلي بطلب من رئيس الوزراء نتنياهو و"تسيفي ليفي " من المعسكر الصهيوني،عقدت إجتماعات طارئة وعاجل لمناقشة احتمالية انهيار وسقوط السلطة الفلسطينية أكثر من مرة خلال أسبوع، كفرضية حقيقية يمكن ان تقع رغم انها غير مرغوبة اسرائيليا فيما تحذر جهات امنية اسرائيلية واخرى اجنبية من امكانية وخطر انهيار السلطة وتقدم توصيات حول بلورة سياسة اسرائيلية رسميه هدفها منع هذا الانهيار واتخاذ لفتات حسن نية وخطوات ميدانية من شانها ابعاد هذا الخطر الداهم.
وختاماً أقول بأن الخليفة المتوقّع في حال انهيار السلطة الفلسطينيّة، سيكون منسّق عمليّات الحكومة الإسرائيليّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، الجنرال يوآف مردخاي، مع أن المشكلة الأكبر التي ستواجه إسرائيل، في حال تحقّق سيناريو انهيار السلطة الفلسطينيّة، المصير المجهول لأفراد الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، والذين يحملون عشرات الآلاف من البنادق والأسلحة، وربّما تقع في أيدي منفّذي العمليّات المسلّحة ضدّ الإسرائيليّين، وسيبقى هذا الوضع قائماً حتى وجود بديل عربي أو إقليمي يقبل بهذا الوضع، او ربما ستقود تطورات الهبة الشعبية الى تطورات وتحولات قد تحدث تعديلات وتغيرات في ميزان القوى مستفيدة من الأوضاع الناشئة والمعادلات التي ترتسم عربياً وإقليمياً ودولياً.