ماذا أقصد هنا بالذات العليا؟ إنها بداية ليست الأنا العليا عند (فرويد) التي أطلق عليها (Super-ego)، وإن اشتبهت بها قليلا، إنها ليست الذات التي تنظر إلى الحدث بتجريد وتصفه وصفا عاما متشابها، ولم تكن ذات الكاتب الخاصّة حاضرة في الكتابة، ولا يعني ذلك أيضاً أن الكاتب يكتب ذاته وأوجاعه الخاصة بطريقة فجّة، وإنما أن ينغرس الكاتب بذاته الكليّة وهو يكتب، بحيث يقول كل من يقرأ إنك أنت هنا، ولست هنا أيضاً، وكأنك وحدك استحوذت على الكليات التجريدية فبدت بفكرتك مجبولة بروحك، وصار المألوف جديدا، كأننا نسمعك وحدك، ولم نسمعه من غيرك.
هنا يكمن اختلافك، صديقي الكاتب، وهذا مدار الدهشة في كل جديد يُكْتَب، فلا تُعِدْ عليّ قولا قاله السابقون فاستدعته الذاكرة، وطغى على ما تفوهت به، بل عليك أن تتجاوزهم جميعاً فكرةً أو أسلوباً، ولو تحايلاً مجازياً، وإن لم تسطع فعل ذلك، فاحذف ولا تبال، ولا تعترف به مولودا يستحق التسمية في سطور الكتب.
فكرة أخرى لازمة وضرورية. عليك ألا تتوقف عن الكتابة أبدا، بل اكتب كلما أقلقتك الهواجس، وحركت يراعك الأفكار، فإنك لا تدري أي فكرة ستقع بين يديك وحيا كاملا سحرياً عبقريا، فاقتنص وصِدْ واكتبْ، وتأمل ما كتبت جيدا، ووازن وقارن، وأعمل عقلك الواعي وكن دكتاتورا في بتر الأعضاء المشوهة ولا يغرنك حسنها الخادع، فإنها تستدرجك لما هو أسوأ، وتقودك إلى حلقات السخرية والاستهزاء والتندر، فكن قيّم نفسك قبل القراء تكن أديبا بارعا وجميلا مدهشا، ولا تقبل بخوادج الأفكار البلهاء ناقصةِ العقل ومعتقلةِ القلب ومكسورةِ الجناح، فإنها ستجعلك لصيق أرض البور في واد غير ذي زرع عند عملك المدنس!
هنا ستتحرر الكتابة من الذات العليا المشوهة وتصبح أكثر دلالة وواقعية وجمالا وتأثيرا، وعندئذ سيكون العمل الجديد عملا يستحق القراءة والإشادة والاحتفاء والاحتفال وتتراكص على ضفاف أنهره العذبة كل الطيور ويتزاحم على مائه كل قارئ مختلف وحقيقيّ؛ لأنه سيجد ما يجعله مقيما ساجدا راكعا بين يدي النصّ، يرتل آياته حتى لو لم يكن متفقا مع الفكرة، ولكنه سيكون منتشيا مأخوذا بسحر غامض يتغلغل داخل النفس ويروي عطشها للجمال والحب ومداعباً الأمل، ومهدهداً الألم، لينام مطمئنا يغيّر أحزانه وأحلامه السوداء العقيمة المدلهمة، يبحث عن مسرب للعيش في دهاليز الضباب الكثيف!