بعد أقل من أسبوع على شن اليمين الإسرائيلي لهجوم حاد ومنسق على نشطاء حقوق الإنسان عبر إطلاقهم مقطع فيديو قصير يصور الناشطين الدوليين على أنهم خونة ومتعاونون مع "العدو الفلسطيني" حسب وصفهم. وضع اليمين الإسرائيلي نفسه في موقف للدفاع عن نفسه بعد نشرهم لمقطع فيديو يظهر مدى تعطش أنصار اليمين الإسرائيلي للدماء ومدى وحشيتهم المطلقة.
مقطع الفيديو الذي بثته القناة العاشرة الاسرائيلية يظهر مجموعة من المستوطنين يرقصون بنشوة شديدة في حفل زفاف اثنين من نشطاء اليمين الاسرائيلي ويرددون تراتيل من التوراة تتوعد الفلسطينيين بالقتل والتشريد والانتقام عدا عن رفعهم لأسلحة نارية في الهواء في منظر غوغائي للغاية.
وفي ذروة انتشائهم بالرقص قام بعضهم بطعن صورة للطفل ذو الـ 18 شهراً علي الدوابشة وهو الذي قضى حرقاً في شهر آب الماضي، نتيجة هجوم متعمد شنته مجموعات المستوطنين على منزله في قرية دوما قرب نابلس.
ويأتي هذا المشهد المنتشر في ظل استمرار محاكمة والتحقيق مع المتهمين بتنفيذ جريمة الحرق وهما اثنان من أبناء أشهر الحاخامات المتطرفين في الأوساط الدينية الإسرائيلي.
يكشف هذا الاحتفال الهستيري بجريمة قتل الطفل علي الدوابشة حرقاً أن الهجوم لم يكن نتاج عمل بعض المجانين او المختلين – حسب وصف المحكمة – يعيشون على هامش مجتمع اليمين المتطرف والمستوطنين في دولة الاحتلال، وإنما هو جزء من جماعة دينية تستهدف حياة المدنين الفلسطينيين بشتى الوسائل.
والاحتفال أيضاً دليل آخر على أن منفذي جريمة الحرق ليسو "أعشاباً برية" في غابة المجتمع المتدين الإسرائيلي الخضراء - حسب وصف نفتالي بينيت - وإنما هم جزء أساسي من خشب الغابة المزدهرة هذه الأيام.
تعود أصول هذا "الخشب" إلى العام 1998 عندما قام وزير الخارجية في حكومة بنيامين نتنياهو الأولى "أرئيل شارون" بدعوة المستوطنين للاستيلاء على كل تلة فارغة في الضفة الغربية للحيلولة دون تقديم المزيد من التنازلات للفلسطينيين وقتها "ما ستأخذون سيكون لنا وما لم تأخذوه لن يكون لنا" هكذا قال شارون حينها.
وفور إطلاق شارون دعواه هذه انتشرت مئات البؤر الاستيطانية غير القانونية في جميع أنحاء الضفة الغربية وكثير منها تواجد في مناطق تخضع للسيطرة الفلسطينية وفق الاتفاقيات الموقعة حينها في تحد واضح لكل ما يتعلق بهذه الاتفاقات فلسطينيها وإسرائيليها.
لاحقاً أصبحت هذه البؤر أقرب إلى ما تكون من الأرض الحرام حيث لا يتم تطبيق سيادة القانون بنحو فعال حيث سكن بها جيل من الشباب عرف لاحقاً بفتيان التلال، وهو جيل أطلق ما يمكن ان يسمى بالثورة فيما يتعلق بتوسيع البؤر الاستيطانية دون كثير من الضغوط والقوانين التي خضع لها الجيل القديم من أجل الحفاظ على علاقته بالحكومة.
وعلى مر الوقت كانت قيادة "فتيان التلال" هذه غامضة إلى حد ما عدا عن غموض وسرية هجماتها ضد الفلسطينيين بالإضافة إلى الاعتداء على رجال الشرطة الاسرائيلية وجيش الاحتلال ويلاحظ أن عدوانيتهم الزائدة سمحت لهم بالتوسع بشكل لم يكونوا يطمحون له في ظل أي تبعية للحكومة.
تشكل هذه البؤر بالإضافة إلى بعض المستوطنات المعاقل الأكثر تطرفاً للمستوطنين بحيث ازدهرت بها الأيديولوجية العنصرية والتخريبية بشكل كبير. وفي كتاب (تعاليم الملك) الذي نشره الحاخام اسحاق غينسبورغ تلخيص لعقيدة ومبادئ هذه المجموعات حيث سمح الكتاب ضمن تعاليمه بقتل الأطفال الرضع إن كانت هناك أي فرصة ليكبروا ويصبحوا أشراراً مثل آبائهم.
لم تدن القيادات الاستيطانية الاعتبارية هذه الكتابات بل استمرت البؤر الرئيسة للاستيطان بتمويل بؤر المستوطنين المتشددين هؤلاء وعملوا بجد لحماية هؤلاء الشباب والحيلولة دون تقديمهم للمحاكمات أمام القضاء الإسرائيلي بحجة مهاجمة الفلسطينيين.
لكن حادثة قتل عائلة الدوابشة وإحراق ثلاثة منهم حتى الموت أجبر حكومة الاحتلال على إظهار انها لم تتجاهل مرتكبي الجريمة على الأقل امام المجتمع الدولي الذي يضغط بشدة لعدم تمرير الحادثة دون حساب. لكن الأمر لم ينته إلى هنا بل ساهم في ضحد دعاية أجهزة الاحتلال الأمنية التي تقول أن الفلسطيني يبقى في مأمن من بطشها طالما لا ينفذ أي هجمات ضد إسرائيليين.
وركزت أجهزة أمن الاحتلال جهودها على القبض على المستوطنين الذين استهدفوا العائلة بالحرق حتى أن أجهزة الاحتلال سربت أخباراً لا ندري مدى دقتها عن قيامها بتعذيب قيادات المستوطنين للوصول إلى الفاعلين الحقيقيين.
على المجتمع الإسرائيلي أن يرى نفسه بصدق، فهو يملك نخبة عسكرية وسياسية حاكمة متطرفة باتت تشكل فيها قيادات هؤلاء المستوطنين مكانة أساسية أكثر من أي وقت مضى وخلال الأشهر القليلة الماضية تم ترشيح متطرفين من أنصار هذه الجماعة لمناصب رؤساء الشرطة وجهاز المخابرات والنائب العام.
يعتبر بينيت أحد أبرز قادة هؤلاء المستوطنين ولا يخفى على أحد طموحه بأن يصبح أول رئيس وزراء متدين للكيان، ومع ذلك فقد نآى بنفسه بعيداً عن الراقصين مع صورة الدوابشة مؤخراً محاولة تبرئة ساحته وهو ما أشرع فتيان التلال هؤلاء بأن بينيت خانهم بشكل متعمد.
وعلى الرغم من ذلك فإن هؤلاء المتطرفين لا يزالون يتمتعون بجانب كبير من الدعم داخل الاوساط اليمينة في الحكومة فعلى سبيل المثال صرح النائب بتزاليل سموتريتس من حزب إسرائيل بيتنا أن حادث إحراق بيت الدوابشة لا يمكن اعتباره عملاً إرهابياً فما طالب وزير العدل وهو من نفس الحزب ايليت شاكيد بإجراء تحقيق في تعرض منفذي الحريق للتعذيب أثناء التحقيق معهم
وفي الوقت الذي تزداد فيه مظاهرات هؤلاء الفتية ضد ادعاءات التعذيب هذه من قبل الشاباك جاء مقطع الفيديو لينتشر من حفل الزفاف وهو ما دفع بينيت ليرفع يديه ويؤكد أنه لا يؤيد فتيان التلال وأنهم يجب أن يتحملوا مسؤولية أفعالهم في أول تخل له عنهم.
هناك طريقتان للنظر في الخلاف الداخلي هذا، الأولى أنه خدعة متطورة من قبل معسكر المستوطنين لتصوير نفسها على أنها الفاعل الحقيقي لمحاربة المتطرفين في الوقت نفسه تسمح لهؤلاء الفتية بتدمير مملتكات الفلسطينين و الاستمرار باستهدافهم.
والثاني أن مجتمع المستوطنين يواجه حالياً تناقضات كبيرة بحيث بات يرفض هذا المجتمع الفلسطيني العادي أو حتى ناشط السلام وينظر إليه على أنه معاد للسامية وهو ما يعني أن المستوطنين هؤلاء في طريقهم لمواجهة حقيقية مع الدولة وقوانين الأمم المتحدة.
قد تظهر هذه الاحداث لبينيت وغيره من قادة المستوطنين أن الواقع أكثر تعقيداً مما يتخيل وقد يكون من السابق لآوانه أيضاً الحديث عن صحوة حقيقية تحدث في مجتمع المتشددين لكن يمكننا القول أن المجتمع المتشدد هذا بدأ يفهم أوجه القصور في منظومته وينتبه إلى اختلافاته الكبيرة وبشاعة دعوته.
المصدر: ميدل ايست اي - ترجمة: هيثم فيضي