يهدف جون كيري في جولته الثانية إلى المنطقة، أثناء الموجة الانتفاضية الحالية، إلى إقناع الفلسطينيين والإسرائيليين باتخاذ خطوات من شأنها الحفاظ على الاستقرار ومنع انهيار السلطة، ووقف أعمال "العنف" الفلسطينية، ولا يفكر في العمل على استئناف المفاوضات للتوصل إلى حل الدولتين. فوفقًا لما صرح به مسوؤل أميركي كبير "ليس هناك ما يمكن أن يتفق عليه الطرفان الآن، وليس هناك ما نحاول حثهم على الاتفاق عليه". فما ستحاول إدارة أوباما عمله حتى نهاية فترة رئاسته - بعد حوالي عام - تشجيع الطرفين على عمل أشياء مفيدة وتصب في مصلحتهما ومصلحة أميركا، وتمنع التدهور، وتحدّ من التوتر والعنف إذا لم تستطع وقفه كليًّا.
ويزور كيري المنطقة وهو الذي لم يأت سابقًا بالرغم من كل عمليات القتل والإجرام والتوسع الاستيطاني والانتهاكات الإسرائيلية ضد القدس والأقصى، لإنقاذ إسرائيل بناء على طلبها، وحتى يقنع السلطة بأن تفعل كل ما تستطيعه لوقف الموجة الانتفاضية و"التحريض" الذي تمارسه، متجاهلًا أن الاحتلال ذروة التحريض والإرهاب، وذلك مقابل إقامة برامج ومشاريع اقتصادية مثل (3G) الذي وافقت سلطات الاحتلال على تنفيذه في الضفة الغربية فقط، وتنفيذ إقامة المنطقة السياحية في البحر الميت، وإقامة منطقة صناعية وغيرها، وإصدار تصاريح للعمال والتجار وما شابه ذلك.
هناك معلومات عن إمكانية أن تشمل الزيارة البحث في تمكين السلطة من إقامة مشاريع في مناطق (ج) كما طالب رئيس الحكومة الفلسطينية (بدلًا من المطالبة بالانسحاب الإسرائيلي منها) ، وإقدام سلطات الاحتلال على تنفيذ "النبضة الثالثة" التي نصّ عليها اتفاق "واي ريفر" العام 1999 ولم تنفذ، والتي تقضي بـ"انسحاب" قوات الاحتلال من 13% من مساحة الضفة الغربية. وهذا يتقاطع مع ما أعلنته حكومة نتنياهو عن عزمها على تنفيذ خطوات أحادية الجانب، وتهديدها بسحب الهوية المقدسية من حوالي 80-200 ألف مواطن فلسطيني.
المهزلة أن البحث هبط إلى مستوى سقفه الأعلى "السلام الاقتصادي" الذي بشر به نتنياهو، ويقدم للفلسطينيين باعتباره أقصى ما يمكن أن يحدث.
أسوأ ما يمكن أن يحدث أن يتم تناسي، في خضم الحديث عن "النبضة الثالثة" وعن إقامة مشاريع في مناطق (ج)، بأنّ السلطة تحولت إلى سلطة بلا سلطة، وأن قوات الاحتلال منذ العام 2002 استباحت مناطق السلطة المصنفة (أ) بشكل كامل، بحيث تعتقل من تشاء وتفعل ما تشاء، إذ لم يعد هناك أي معنى للسلطة التي باتت بعد إعلان الموت السريري لما سمي "عملية السلام" أكثر من السابق عبئًا على الشعب الفلسطيني وبرنامجه الوطني، الأمر الذي يوجب وبشكل أكثر إلحاحًا الكف عن التهديدات اللفظية بوقف الالتزامات الفلسطينية المترتبة على "اتفاق أوسلو"، والانتقال إلى وضع خطة عملية والشروع في تنفيذها، تهدف إلى إعادة النظر في طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، في إطار وضع وتنفيذ رؤية شاملة وخارطة طريق كاملة، تبدأ بإعادة القضية الفلسطينية إلى طبيعتها الأصلية بوصفها قضية تحرر وطني، تستوجب إعادة بناء وتوحيد الحركة الوطنية والتمثيل الفلسطيني ومؤسسات منظمة التحرير على أسس جديدة قادرة على حشد مختلف ألوان الطيف السياسي في مجرى الكفاح لتحقيق الأهداف الوطنية .
أخطر ما يمكن أن يحدث أن تتعاطى السلطة مع ما يطرحه كيري كبديل عن فتح الطريق لوضع إستراتيجية جديدة ومختلفة، قادرة على فرض عملية سياسية تهدف إلى إنهاء الاحتلال والاستعمار الاستيطاني على أساس "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، أو على خلفية أن لدى السلطة خطة سياسية متكاملة بعد إقرار اللجنة التنفيذية توصيات اللجنة السياسية التي تعكس الاستمرار بانعدام الخيارات وتفضيل الانتظار على أي شيء آخر، بدليل أن قرارات اللجنة التنفيذية المتخذة منذ 4/11/2015 لم يتم الشروع في تنفيذها حتى الآن، وهي نفسها القرارات المتخذة في اجتماع المجلس المركزي في آذار 2014.
السبب في ذلك يرجع إلى الخشية من عواقب تنفيذ هذه القرارات من دون توفير بدائل، خصوصًا في ظل الضعف والانقسام والشرذمة والتيه الفلسطيني، وهذه الخشية تظهر من خلال تخويل الرئيس باختيار الوقت المناسب لتنفيذها.
في هذا السياق، تم تأجيل تطبيق القرارات إلى حين حدوث لقاء أوباما ونتنياهو، وسيتم التأجيل إلى ما بعد تلقي جواب على الرسائل التي سترسل إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورؤساء أميركا وروسيا والصين وأوروبا والمفوضة السامية للاتحاد الأوروبي، وسيبقى التأجيل مفتوحًا حتى إشعار آخر ما لم يتم بناء بدائل تضمن في الحد الأدنى بقاء القضية حية، وتقليل الأضرار والخسائر إلى أدنى حد ممكن، وتوظيف الفرص المتاحة للانتقال بعد ذلك إلى مرحلة يمكن فيها تحقيق الإنجازات الوطنية. (للمزيد حول قرارات اللجنة التنفيذية: راجع ورقة تقدير موقف التي أصدرها مركز مسارات يوم 9/11/2015 بعنوان "السياسة الفلسطينية بعد إقرار اللجنة التنفيذية توصيات اللجنة السياسية".
لو و"لو كلمة تفتح عمل الشيطان" جاء كيري، وكانت هناك حاضنة سياسية وتنظيمية واقتصادية وفكرية للانتفاضة، على أساس تحديد أهداف ممكنة التحقيق، وتشكيل قيادة موحدة من فوق لتحت ومن تحت لفوق، بحيث تتسع للعناصر الشابة ولكل المجموعات التي ظهرت أو يمكن أن تظهر.
ولو جاء كيري بعد حسم أمر انعقاد مؤتمر "فتح" في ظل اعتماد برنامج سياسي جديد، وانتخاب أطر حركية جديدة تعكس إرادة الفتحاويين، وتضمن استمرار قيام "فتح" بدورها بعد نفض الدرن الذي علق بها بعد ذوبانها في السلطة، وبعد عقد الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، أو ما يسميه البعض "لجنة تفعيل المنظمة"، بما يضمن إحياءها وتفعيلها بمختلف دوائرها، بالتوازي مع تشكيل لجنة تحضيرية للمجلس الوطني الذي يمكن أن يشكل من جديد فورًا، أو أن يعقد جلسة بتركيبته القائمة، على أن يعقد جلسة له لاحقًا بتشكيلة جديدة في مدة لا تتجاوز عام واحد، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، والشروع في إعادة توحيد مؤسسات السلطة في الضفة وقطاع غزة، خصوصًا الشرطة وأجهزة الأمن، واعتماد إستراتيجية موحدة تستخدم جميع أشكال العمل السياسي والكفاحي، خصوصًا المقاومة والانتفاضة والمقاطعة، واستخدام المؤسسات الدولية، خصوصًا محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات، والقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، لا سيّما الفتوى القانونية لمحكمة لاهاي، واللجوء إلى الجمعية العامة، وليس إلى مجلس الأمن المعطّل بحكم شبح "الفيتو" الأميركي الذي يخيم عليه إزاء أي قرار يكون في صالح القضية الفلسطينية، من أجل إصدار قرار باعتماد دولة فلسطين كدولة كاملة العضوية .
لو حدث كل ذلك، وهو شيء من الخيال في وضعنا الراهن، ولكنه أمر يمكن أن يصبح حقيقة واقعة لو توفرت القناعة والإرادة السياسية، لكان كيري وغيره من المؤثرين والمتحكمين بالقرار الدولي سيتعاملون مع القيادة الفلسطينية بشكل آخر محترم، وليس باستخفاف واستهتار كما نلاحظ من خلال تقديم إبر تخدير، وعبر الحرص على إعطاء الأولوية لتوفير أمن الاحتلال، والحفاظ على الوضع الراهن بدلًا من العمل الجاد لإنهاء الاحتلال.
ما سبق يدلل مرة أخرى على أن ما تجسده الموجة الانتفاضية الفلسطينية التي تقترب من نهاية شهرها الثاني، هي نموذج أو إشارة عن البديل المفترض اعتماده عن الإستراتيجيات المعتمدة سابقًا، على أساس القناعة بأنه من دون الاعتماد على الذات وتجسيد وحدة وطنية راسخة تعمل من أجل تغيير موازين القوى بشكل جدي لا يمكن تحقيق أي حد من الأهداف والحقوق الوطنية.
ما يجري على أرض فلسطين هو الذي سيترك صداه على ما سيحدث في أروقة الجامعة العربية والأمم المتحدة، ومختلف المؤسسات الإقليمية والدولية، وليس العكس، لأن الوضع العربي في أسوأ حال، والمؤسسات الدولية رهينة النفاق الدولي والفيتو الأميركي.