إعذروني إن قلت أننا شعب عديم الخجل وفارغ كالطبل الأجوف الذي يُزعج ولا يُطرِب.
إعذروني إن قلت أن الذين إستحوا ماتوا، ومن تبقوا إقتصرت وظيفتهم على الكلام وفلسفة الأمور بعدم جدواها والتصفيق الأهبل.
نحنُ شعب تقزمت أحلامنا بعظمة تاريخنا، وتخنث رجالنا بفحولة أولاد أسلافنا، فتحنا العالم وعجزنا عن فتح عقولنا نحو الحقيقة، تغنينا بالإسلام فطبقهُ غير المسلمين أكثر مِنا، هتفنا للثورة فلم نثور إلا على الجدير بالإحترام من تقاليدنا وما هو خلاصنا من ديننا، صادروا بنادقنا فسلمنا بالأمر الواقع، رسمنا الوطن على كذب ملامحنا ونزعنا جذوره من قلوبنا، لا نعرف من الكُتب إلا عناونيها ومن التضحية إلا خشية الإقدام عليها، ثقافتنا ثرثرة وخطاباتنا مسخرة وخوفنا بات تعقلا وحميتنا رعونة، جرأة بعضنا تثير شفقة كلنا، حاكمنا يُباع ويُشترى، أقلامنا مأجورة وأعنقانا مبتورة.
لم تكن مدينة نابلس بأفضل من بقية المدن التي إستيقظت على خبر إستشهاد الأسير ميسرة أبو حمدية، تلك المدن التي تصفعنا دوما بنومها واستماتتها في الحياة العادية، وقفتُ اليوم في المكان الذي وقفتُ فيه قبل عدة أسابيع عندما أستشهد الأسير عرفات جرادات لكن هذه المرة كنت برفقة شخصين فقط وعندما إكتمل العدد لم يصل إلى خمسين مشارك والآف المشاهدين الذين لم يخجلوا ويغلقوا محالهم التجارية فينضموا مع موتنا المتكرر. فعلا "إلي إستحوا ماتوا".
المشاهد ذاتها تتكرر، لا مبالاة المارة بوقوفنا وهتافاتنا التي باتت مصدر إزعاج لهم، الباصات المليئة بنساء من عرب فلسطين المُحتلة باذخات الغباء وعيونهن لا ترى سوى واجهات المحال التجارية، رجال إقتصرت ملامحهم على عيون تحولت لقبضة أمنية ترصد نشرتنا النفسية ونوايانا الوطنية، وآخرون يصرخون عبر مكبرات الصوت، يقولون كل شيء وأي شيء من شأنه أن يوقظ مدينتي النائمة تلك القطة منزوعة الأظافر.
نفس المشاهد ونفس المواقف ونفس اليقين بأن الكلمات ما هي إلا تعويض سخيف عن غياب السلاح. خطوة للأمام وعشرين ألف خطوة للخلف، وكالعادة نأتي متأخرين عن الموت بموقف، ومن هذا الذي سيسمع نحيب أرواحنا حين تبصق بوجوهنا قائلة ( حرروا أنفسكم فلن تخسروا سوى ذلكم ومزيدا من القيود).
صباح الخجل يا مدينة تنسى شهداءها، تمر عن الموت، تقرأ تفاصيله ثم تذهب بمن فيها للتسوق.
هناك جانب آخر لا بد من ذكره وهو دور الجامعات الفلسطينية في حشد طلابها من أجل المشاركة بكل ما من شأنه أن يرعى الروح الوطنية فيهم، وهو أمر إفتقدته اليوم عندما ذهبت لتغطية فعالية داخل جامعة النجاح الوطنية التي رفضت تعليق الدوام إحتجاجا على إستشهاد الأسير ميسرة أبو حمدية واكتفى أحد الشخصيات الرسمية فيها بالتساؤل "لماذا نعلق الدوام؟ ها نحن منحنا الطلبة ساعة لتنفيس غضبهم".
ساعة واحدة مقابل عشرات السنوات في سجون الإحتلال، ومقابل أرواح في ضيافة الموت! رغبت أن أقول له "كثر الله خيركم، فعلا إلي إستحوا ماتوا"، ترفضون تعليق الدوام إحتجاجا على إستشهاد أسير بينما تنهمكون في تحضير المسرح لحفلات ليان بزلميط الهابطة!
بالمقابل، لا لوم على إدارة الجامعة إن لم يكن لدى الطلبة وعيا كافيا لدورهم الضروري في المشاركة والتفاعل وعدم الإكتفاء بالمشاهدة البلهاء والتواجد فقط بمهرجانات الإنطلاقات لأحزابهم التي يهرعون إليها حتى دون دعوة ليثبتوا أن إنتماءهم للحزب أكبر من إنتمائهم للوطن.
سابقا خرجت الجامعات الفلسطينية أعظم الاستشهاديين والمقاومين أمثال يحيى عياش وجمال منصور ويامن فرج ونعمان طحاينة، أؤلئك لم يعرفوا من الخوف سوى خشيتهم من التأخر في الإقدام على التضحية ولم يكونوا ليتوانوا بالمشاركة في حدث بغض النظر عن منظميه، ومن يتحجج بضغط الأجهزة الأمنية ما عليه سوى التحدي والمبادرة الفردية وإلا سيظل كالمنبه العطلان الذي لا يدق إلا بعد فوت الأوان.
أما المشهد الآخر وليس الأخير، فهو غياب المسؤولين عن هذا الحدث، فلم أجد من بين الخمسين متظاهر لا المحافظ ولا رئيس البلدية ولا نواب التشريعي من كافة الفصائل، وأصدقكم القول أنني لم أستغرب، فغيابهم عن فعاليات الأسرى أصبح إعتياديا، وتنازلهم للمشاركة قد لا يليق بمقامهم، وهم دائما يغيبون ليؤكدوا يقيني بالأشياء التي تظل بحاجة للتلميع في وطني "الحذاء والمسؤول".
الأسرى دولة تستحق أن نُعلن لها الولاء ووحده التاريخ يتكفل بإحتضان بطولات شعبها، وحده من يُقدر عظيم تضحياتهم، أما نحن خذلناهم وإن كتبنا كلاما كثيرا عنهم وامتطينا القوافي ننظم "الأجعار"، وإن حملنا الرايات ورقصنا بالشعارات وبُحَت حناجرنا المستعارة في مظاهرات السابع عشر من نيسان. خدلناهم، فلم يكونوا يوما على رأس أولوياتنا، لم نغضب لأجلهم، لم نتوانى في إهمالهم، صرنا أكثر انشغالا من تذكر موتهم، وأقلُ إخلاصا في انتظار عودتهم.
خذلناهم، وهتفنا لرغيف الخُبز، هذا الذي صرنا عبيدا له.
خذلناهم، وتقزمت أحلامنا أمام مارد صبرهم.
خذلناهم، وصرنا نتسول فتات الكرامة خلسة مِن رصيف صمودهم.
خذلناهم، وأصبحوا ذنوبنا التي لن تُغتفر.
خذلناهم، بلهاثنا خلف خرافات السلام وتخلينا عن أبجديات الحرب.
ميسرة أبو حمدية، أشرف أبو ذريع، زهير لبادة، عرفات جرادات، زكريا عيسى.
طَوَقتني هذهِ الأسماء، طوَقتني بسلاسِل مِن كَرامَة.
تَعلمَت البقاءَ مِنَ الفَناء، ماتَت لتخضرَ بموتها كرامَتنا.