كتب: أحمد سعيد قاضي
يعيش المُستَعمِر في حالة شديدة التناقض على المستويين النظري والعملي، تُشكل جوهر الاستعمار من ناحية، وقد تمزقه من الداخل أو تجرحه جروحاً غائرة في خضم صراعه الطويل ضد السكان الأصلانيين؛ أصحاب الأرض. قُطبي التناقض يدوران حول سعي المُستَعمِر الحثيث إلى سحب أي ورقة قوة بيد المُستَعمَرين واستغلالهم أو إقصائهم وتهجيرهم وسرقة أراضيهم ونفي وجودهم وديمومتهم الجسدية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وطمس صوتهم وكلماتهم وأغانيهم وتضاريس حيّزهم وتاريخهم وماضيهم من ناحية، ومن ناحية أخرى يريدهم أن يظلوا هادئين صامتين خانعين فلا يبدر عنهم أي اعتراض على قتلهم ولا أنين على إصابتهم ولا احتجاج على سلب أرضهم.
إن العملية الاستعمارية تتضمن كلا العنصرين جنباً إلى جنب، لا تتقدم واحدة دون الأخرى، فالمُستَعمِر يرى أن وجود وبقاء السكان الأصلانيين دليلاً على إخفاقه في استئصالهم ووصمة عار على جبين قدراته وقوته الجبّارة، وليس البقاء الجسدي على الأرض هو أكثر ما يغيظه، وإنما يغيظه بشكلٍ أعمق الوجود المقاوم للأصلانيين؛ وجود أصوات تحارب صوت المُستَعمِر وروايته المنحازة، وجود الحجر في مواجهة السلاح، وجود الوعي بطبيعة المرحلة، وجود التنظيم والوحدة والتكاتف والتعاضد في وجه المُستَعمِر، وجود صوت يصدح من بين الأسلاك الشائكة ومن خلف جدران الفصل ومن تحت آلات الدمار والقصف بأنْ هاهنا "شعبٌ يستحق الحياة."
إن ما يغيظ المُستَعمِر هو وجود أي تحدٍ كان وأي معيق كان لأي تصرف من تصرفاته الاستعمارية والتوسعية في المنطقة المُستَعمَرة، أي صوت أو حركة أو فعل يعيق حرية عمل المُستَعمِر ويتحدى روايته إنما هي مصدر إزعاج شديد، فالمُستَعمِر يصيبه ضربٌ من الجنون إذا ما تحديّ إذ أنه يحاول دائماً أن يضع الأصلانيين في موضع نسيان ويتصرف تبعاً لذلك، ويتوسع ويتمدد ويسلب ويقتل ويسرق دون أن يستشعر هو ذلك، يبتغي بناء حيوات في داخل مجتمعه على حساب حيوات الأصلانيين دون أي ردة فعل تذكر المُستِعمِر بوجود الأصلانيين، وأي محاولة تذكر المُستَعمِر بوجود سكان قام ويتمدد المشروع الاستعماري متشرباً من دماء أبنائهم ونسائهم وأطفالهم فإن المُستَعمِر يدخل في حالة فزع وجنون تؤدي إلى مزيدٍ من القتل والتدمير والعنصرية تزيد من وعي الأصلانيين بضرورة مقاومة الاستعمار بعد أن تتكشف النوايا الاستعمارية يوماً بعد يوم على امتداد آلة القتل الاستعماري ولو على فترات زمنية طويلة نسبياً، وحتى لو كانت النتائج عكس ذلك للوهلة الأولى.
فالمُستَعمَرون هم مرض المُستَعمِر المزمن، مع كل حركة ونشاط استعماري يتفاقم ألم رأس المُستَعمِر بحجم هذه الحركة والنشاط، ولعل المُستَعمِر يدخل في حالة صرع، إذ يؤذي نفسه دون أن يدرك ذلك، وبينما يقمع الاصلانيين إنما هو يعزز من حقدهم وكراهيتهم ووعيهم بضرورة زوال المُستَعمِر، وفي لحظة تاريخية معينة عند التقاء الإرادة الشعبية والتنظيمية للأصلانيين فإن ألم الرأس لدى المُستَعمِر يغدو ألماً شديداً قاسياً ويتفشى كافة أنحاء الجسد مما يقلب موازين أولويات المُستَعمر من حالة إهمال المُستَعمَر الضعيف وتجنب رؤيته والاعتراف بوجوده إلى حالة وضعه على قمة الأولويات، فجأة وكأن صخرة صدمت رأسه فأدرك وجود من يقاوم مشروعه التوسعي العنصري ويتألم بحجم الضربات المتتالية.
أما الإرادة الشعبية فإن الأصلانيين دائماً ما يكون في مكنوناتهم رغبة في محاربة المُستَعمِر وقتاله، إذ أنه يقدم يومياً عشرات الأدلة على أن هدفه إنما مسح وجود الأصلانيين وسلبهم أرضهم وفي أفضل الأحوال قمعهم والتنكيل بهم، رغم رغبة المُستَعمر في بقائهم هادئين هامدين دون أي حراك وهو التناقض الصارخ، هنا تكمن أزمة المُستَعمِر في كونه يعمل على تقويض الوجود الأصلاني ويهدده ويطلب هدوءه وولاءه ودعواته، فالنتيجة هي تعمق وتجذّر القناعة لدى الأصلانيين بعداء المُستَعمر لهم وهو ما يتنفسون أدلته من تصرفات المُستَعمِر الهمجية في كل لحظة وكل يوم.
وأما التنظيم، فإن غياب الأطر السياسية التنظيمية القادرة على إدارة واستثمار الهبّات الجماهيرية المتصاعدة في ظل الظروف القاسية التي يقاسيها الأصلانيون، والتي تعمق من وعي الأصلانيين بأنفسهم وتزيدهم ثقة وقدرات جديدة، فإن النتيجة هي خمود هذا الحراك ولو بعد حين بنتائج قد تكون سلبية على المستوى السياسي والعملي باستثناء خلق وعي جديد للأصلاني يُبنى هبّة بعد هبّة على الإيمان الراسخ بضرورة انتهاج المقاومة سبيلاً، ولا نقلل من قيمة هذه النتيجة العظيمة، لكن غياب التنظيم السياسي الجدّي، الذي يعني الاستمرارية والاستثمار السياسي للحراك، فإن خسارات الشعب ستكون أكبر دون بوصلة توجيه وتقوم هبّة وتنتهي هبّة جماهيرية أخرى وتضحيات أكثر إلى أن يقاد الحراك من تنظيم نشط قادر على أن يكون بوصلة الصراع باتجاه مكتسبات أكثر وخسائر أقل واستمرارية لفترة أكبر. و”إسرائيل” نموذجا..