في صيف 2003، وأثناء إحدى الجولات المعتادة للصراع بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، قام ديفيد موريس، وهو رسّام كاريكاتير، بإطلاق العنان لمشاعره وهو في مطبخ منزله، ليُخرج برسم تُظهِر علاقة الانبطاح الأمريكية للوحشية الإسرائيلية في هيئة نادل أمريكي يمثل الصحافة الأمريكية وهو يقدّم الرأي العام الأمريكي على طبق لزبون جشع ممتلئ البطن هو إسرائيل، وبعد أن حاول نشره في عدة صحف رفضت الرسم، قرر أن ينشره في نيويورك تايمز كإعلان في صندوق الإعلان يقسم الآراء وبأمواله الخاصة.
بعد أن بدأ الاتصال بنيويورك تايمز ليستعلم عن الأماكن المتاحة في صندوق الإعلانات، اكتشف موريس أن المنظمات الداعمة لإسرائيل قد حجزت الصندوق لثلاثين يومًا من أيام الأحد للعام كله، أي 30 من 52 أسبوعًا، ليقوم بحجز أقرب موعد شاغر، ويحصل على اتفاق بنشر الرسم في 21 سبتمبر بعد أن أضفى بعض التعديلات عليه ليكون مناسبًا لقواعد النشر الخاصة بالجريدة.
خلال أيام، تلقى ديفيد خبرًا مفاده أن نشر الرسم قد تم إلغاؤه بأمر من الناشر بدون إبداء أسباب، ليقوم بتقديم الرسم إلى جريدة USAToday حيث تم قبوله سريعًا، ليظهر بالفعل في صباح اليوم التالي، بيد أن ديفيد ما لبث أن تلقى اتصالًا من نائب رئيس مجلس إدارة الصحيفة، والذي قال له أنه في حياته المهنية كلها لم يتلقى رد فعل عدائي كالذي تلقاه بسبب نشر الرسم، في إشارة إلى المجموعات الداعمة لإسرائيل، والتي تبقي كل ما يظهر بالصحافة الأمريكية تحت عينيها وتغمُر أي جهة معادية لإسرائيل بالمكالمات الهاتفية والرسائل للضغط عليها.
طبيعة التحيّز الإسرائيلي في الإعلام الغربي
الغريب في هذه القصة هو أن نيويورك تايمز في الحقيقة هي واحدة من الصحف الليبرالية نسبيًا، والمتهمة أحيانًا بمعاداة إسرائيل من جانب المتطرفين الصهاينة في الولايات المتحدة، لا سيما وأن مالكها، أرثر سالزبرجر، من اليهود المعادين للصهيونية بشكل عام، وقد أحدث الكثير من اللغط حوله بعد أن نشر موضوعًا مطولًا عن يهود أمريكا المعادين للصهيونية، بيد أن ما جرى مع الرسام ديفيد موريس يحكي عن ثقافة منتشرة في الصحافة الأمريكية تتسم بالحساسية الشديدة تجاه إسرائيل بغض النظر عن وجود التحيز لها من عدمه.
لعل ذلك يفسر لنا المحاولات الفاشلة التي خاضها كلايد هابرمان، أحد مراسلي الجريدة من اليهود الليبراليين لسنوات، في إقناع الإدارة بإيفاد مراسلين غير يهود إلى إسرائيل لينقلوا ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، وهي سياسة للصحيفة تحاول بها أن يكون نقلها للأحداث من هناك محدودًا بسقف الانحياز الطبيعي لدى أي يهودي أمريكي لصالح إسرائيل، على الرُغم من أنها كجريدة بعيد عن اللوبي الصهيوني، إلا أنها لا تريد أن تخوض المتاعب التي خاضتها USAToday بعد نشر رسم موريس، ولا أن توصم بكونها جريدة معادية لليهود، وهي تهمة سهلة بالطبع في الولايات المتحدة.
بمقارنتها بوسائل الإعلام المنحازة صراحة لإسرائيل، يمكن أن نفهم كيف تُتَهم تغطية نيويورك تايمز بكونها معادية لإسرائيل، فصحيفة وول ستريت جورنال المعروفة، والتي تنتمي لمجموعة ذه تايمز الإعلامية الكبيرة، معروفة بعناوينها وتغطيتها المبهمة للصراع العربي الإسرائيلي، بل وأحيانًا بإطلاق العنان لبعض الأصوات الصهيونية المتطرفة، ففي العام الماضي أثناء هجوم إسرائيل على غزة كانت عناوينها تتحدث دون حرج عن “قتلى على الجانبين” رُغم التفاوت الصارخ بين أعداد القتلي الفلسطينيين والإسرائيليين، ناهيك عن أن أغلب الفلسطينيين كانوا من المدنيين.
لاحقًا، وفي صيف 2014 أيضًا، أفسحت الصحيفة مجالًا للسفير الإسرائيلي السابق مايكل أورِن لينشر مقالًا في صفحتين بعنوان “دفاعًا عن الصهيونية،” والذي تبعه خلال أيام تحقيق عن كون الأمم المتحدة مجرد أداة في يد حماس (!) شن هجومًا على منظمة الأونروا التابعة لها والمتخصصة في شؤون اللاجئين الفلسطينيين، وكل ذلك بالطبع ليس غريبًا إذا ما عرفنا أن مالك مجموعة ذه تايمز كلها هو الإمبراطور الإعلامي الأبرز في الغرب روبرت مردوخ.
روبرت مردوخ، هو واحد من أشهر رجال الأعمال الأمريكيين، يتمتع بعلاقات تجارية وشخصية وطيدة مع إسرائيل، منها صداقة وثيقة جمعته برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، وبما أنه معروف بمتابعة ما تنشره وسائل الإعلام المملوكة له وتوجيهها بين الحين والآخر، لم يكن غريبًا أن تقوم صحفه ومحطاته التلفزيونية باستمرار بتغطية منحازة للإسرائيليين في الصراع العربي الإسرائيلي.
تلك العلاقات الوطيدة كانت واحدة من أسباب استقالة سام كيلي من منصبه كمراسل صحيفة “تايمز” في أفريقيا كما يروي بنفسه، “كلما كانت تأتينا شكاوى من أي مجموعة مؤيدة لإسرائيل كان محرر الشؤون الخارجية يُصاب بالذُعر الهستيري ويتخذ الموقف المساند لها على حساب محرري الجريدة ومراسليها، وأمر كهذا لا يمكن أن تحلم به أي جماعة ضغط أخرى في صحيفة من أكبر الصحف القومية هنان” هكذا يقول كيلي، والذي استقال أخيرًا بعد أن تلقى أوامر بأن يتجنب ذكر طفل فلسطيني استُشهِد برصاص القوات الإسرائيلية، “في هذه اللحظة لم أدري ماذا أقول فاستقلت.”
بطبيعة الحال، الصُحُف ليست وحدها في هذا الصدد، ولكن محطات التلفاز أيضًا، فقناة سي إن إن الشهيرة، وطبقًا لإحدى الإحصائيات، قامت باستضافة أربع محللين إسرائيليين مقابل كل مسؤول فلسطيني خلال حرب غزة الأخيرة، كما أن كافة لقائتها مع الفلسطينيين كانت أقل من عدد المرات التي استضافت فيها مايكل أورِن السفير المذكور أنفًا، والذي عينته القناة كمتخصص لشؤون الشرق الأوسط رغم انحيازاته الصهيونية الواضحة، والذي لم يخفي على حساب فيسبوك الخاص به فور توليه منصبه الجديد أن “يظل وفيًا للشعب الإسرائيلي وباذلًا كل جهوده لتوطيد العلاقة الأمريكية الإسرائيلية التاريخية.”
وولف بليتزر أيضًا هو واحد من أبرز الوجوه التي نراها على قناة سي إن إن، وهو صاحب تاريخ طويل مع المشروع الإسرائيلي، فهو يهودي ألماني انتقل مع أهله إلى الولايات المتحدة بعد أن لجأوا لبولندا في الحرب العالمية الثانية، ثم بدأ مسيرته الإعلامية كمراسل رويترز في تل أبيب، لينتقل خلال سنوات قليلة كمراسل في واشنطن لصالح صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، وهي سنوات كتب فيها بشكل مستمر في مطبوعات لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية المعروفة بـ”أيباك” وهي منظمة اللوبي الصهيوني الأشهر كما نعرف.
لسنا في حاجة هنا لذكر قناة فوكس الملتزمة بالخط الأمريكي المحافظ، ودعم السياسات الإسرائيلية، وهي جزء أيضًا من الشبكات الإعلامية التي يملكها روبرت مردوخ، علاوة على قناة سي بي إس، والتي يديرها ليزلي مونفز، أحد أقارب مؤسس الدولة الإسرائيلية ديفيد بن جوريون، والذي لم يكن غريبًا أن تكون قناته منبرًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء حرب غزة الأخيرة ليسرد فيها كل حجج إسرائيل، وهي استضافة ختمها المذيع بوب شايفر بإطلاق العنان لمواقفه الشخصية التي ردد فيها كلمات جولدامائير، “لا يمكننا أن نغفر للعرب إجبارهم إيانا على قتل أطفالهم،” في إشارة لما تقوله إسرائيل باستمرار من أنها توضع في مواقف “تضطر” فيها لممارسة العنف.
بين جهود اللوبي وثقافة الحساسية
بين كل ما يدور في الصُحُف والقنوات التلفزيونية فيما يخص تغطية الملف الإسرائيلي، يحار المرء ما إذا كانت هناك جهود منهجية بالفعل لدفع الإعلام الأمريكي للانحياز لإسرائيل، أم أنه منحاز بطبيعة ثقافة الحساسية تجاه إسرائيل لا أكثر ولا أقل، أم ربما مزيج من كليهما، فصحيفة نيويورك تايمز ربما تشي لنا عن استمرار تحيز الإعلام الأمريكي حتى مع غياب ضغط اللوبي، بل ومع هجوم اللوبي نفسه عليها فإنها تضع حساسيات الملف الإسرائيلي في الاعتبار وتتخذ مواقف تحافظ على حيادها كما تسميها، ولكنها مواقف تظل منحازة لإسرائيل إن قسناها في المُطلق.
انتشار الكثير من اليهود، وطبيعة أغلبهم كمتعاطفين مع المشروع الإسرائيلي نظرًا لقدوم الكثير منهم من أوروبا في الحرب العالمية الثانية، يفسّر لنا الكثير عن انحيازات الإعلام الأمريكي مقارنة بأي إعلام غربي آخر، وهي سمات لا علاقة لها بالضرورة بأي مؤامرة، فوجود أشخاص مثل وولف بليتزر مثلًا أو روبرت مردوخ في عالم الإعلام الأمريكي ليس بالضرورة ثمرة لجهود اللوبي الإسرائيلي بقدر ما هو تجلي لواحدة من خصائص المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة، وهو نجاحه المالي ونفوذه الإعلامي، والذي لم يُستثنى منه حتى شخص معادي للصهيونية مثل أرثر سالزبرجر كما ذكرنا.
اللوبي الصهيوني نفسه وتشكله لا يعدو في الحقيقة كونه تجلي لتلك الشبكة من العلاقات النافذة سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، والتي ليس بمُستَغرَب أن تُبذَل جهود مضنية للحفاظ عليها، تمامًا كما تفعل جماعات الضغط الأخرى، فأمريكا تعج بـلوبيات كثيرة منها التايواني والكوري والصيني والهندي، وهي كلها تدفع لصالح ترسيخ العلاقات مع بلدانها المعنية والحفاظ على مصالحها ومراعاة تبني مواقف سياسية موالية لها، وبالنظر لكونها على رأس المنظومة الدولية، ليس عجيبًا أن تعج واشنطن بالعشرات من تلك الجماعات لتمرير مصالحها، بل وحتى في مجالات غير متعلقة ببلدان معينة، فهناك جماعات ضغط بيئية، وجماعات ضغط لشركات النفط، وجماعات ضغط لشركات السلاح، إلخ.
إجمالًا، يمكن القول أن قوة اللوبي الصهيوني في التأثير تسير جنبًا إلى جنب مع ثقافة أوسع في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية مفادها الالتزام بالحساسية الشديدة تجاه إسرائيل، وهي ثقافة يرسمها نفوذ اليهود كما قُلنا، وتعود ربما لدور الولايات المتحدة في استضافة الملايين من اللاجئين اليهود من ألمانيا، وهي ثقافة لا توجد في الولايات المتحدة فقط، بل لعلها موجودة أيضًا في ألمانيا التي تعاني حتى الآن من عُقدة ذنب إن جاز القول تجاه الملف الإسرائيلي، على العكس من منابر إعلامية تتمتع بحرية انتقاد إسرائيل تعج بها كل من فرنسا وبريطانيا.
المصدر: نون بوست