بقلم الكاتب منير شفيق
قليلون أولئك القادة الميدانيون الذين تُعرَف أعمالهم وإنجازاتهم أو صفاتهم القيادية في حياتهم، فيُعرَفون بعد استشهادهم. وإذا بقلوب الشعب تُفتح لهم، ويصبحون قدوة للأجيال الصاعدة.
ولكن حتى بعد استشهادهم لا تُكشَف كل إنجازاتهم ومآثرهم وذلك لتستمرّ بعدهم كأنهم باقون في إخوانهم الذين يواصلون الدرب. فتأثير الشهيد في شعبه وإخوانه وفي الشباب يخفف من الخسارة والفقدان ويعزي النفوس ويضمن استمرار القضية التي سقطوا شهداء من أجلها.
ميسرة أبو حمدية أبو سنينة “أبو طارق” من القادة الميدانيين الذين عملوا بتفانٍ ونكرانٍ للذات ولاذوا بالصمت ولم يشعر بعظمتهم إلاّ من كانوا يعملون معهم. وهؤلاء منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وهم الآن يملأهم الحزن والأسى لفقدان أبي طارق، وقد زادوا تصميماً على مواصلة الدرب.
عندما كان ميسرة في ريعان الشباب كان الذكاء يشعّ من عينيه، ويقفز من أسئلته، ويتجلى في ما يطرح من آراء. فالعين ما كانت لتخطئ وهي تنظر إليه بأنها أمام قائد واعد ومناضل صلب، ومنظِّم مؤثِّر، وقدوة مُلهِمة.
بعد أن أُبْعِدَ ميسرة عام 1978 إثر مرحلة قضاها في العمل السري ونجح في امتحان الصمود تحت التعذيب وفي الإنفرادية ووراء القضبان. إنضم في العمل مع أبي حسن وحمدي. وراح في لقاءاته مع إخوانه في الخارج يناقش حول القضايا الفكرية والنظرية والسياسية وتقديرات الموقف. فقد كان مهتماً بهذه القضايا حتى تحسبه مثقفاً أو باحثاً لا علاقة له بالعمل الميداني، وأيّ عملٍ ميداني. وأن هذه السمة تكون نادرة بين المنشغلين بالعمل السرّي والتنظيمي والتدريبي وإعداد الكوادر. ولكنها كانت سمة بارزة عند ميسرة. وقد عزّزتها علاقاته بأبي حسن (محمد محمد بحيص) وحمدي (باسم التميمي) وثلة من إخوانهم الذين استشهدوا من قبلهم أو من بعدهم. وها هوذا ميسرة “أبو طارق” يلحق بهم شهيداً بعد أن كان شريكاً فذاً في العمل في الأرض المحتلة، مع أبي حسن وحمدي. وقد أسهم في الربط بين المبدأ والسياسة والفكر والعمل الميداني كما فعل الشهيد سعد جرادات قائد السريّة الطلابية.
كان لميسرة “أبي طارق” دورٌ هام في المرحلة التي عمل فيها هو وأبو حسن وحمدي يداً بيد في تأجيج المقاومة في الأرض المحتلة وفي بث الروح الجهادية الإسلامية إلى جانب الروح القتالية الفتحاوية في مرحلة الثمانينيات، بعد أن كانت ظروف خروج م.ت.ف من بيروت قد أحدثت نكسة في عمل فصائلها داخل الأرض المحتلة، فكان من المؤسّسين للمقاومة التي أطلقتها سرايا الجهاد الإسلامي.
على أن استشهاد أبي حسن وحمدي ومروان كيالي في ليماسول في قبرص عام 1988 أشعر ميسرة بمسؤولية أكبر لمواصلة الدرب مع ثلة من إخوانه الذين عكس ذلك الإستشهاد في أنفسهم شعوراً بعظم المسؤولية، وبضرورة دفع الإنتفاضة الأولى إلى أمام، كما تطوير المقاومة المستجدة لا سيما بعد اتفاقية أوسلو الذي أعلنت فصائل م.ت.ف إلقاء السلاح بناءً على بعض شروطها فضلاً عن انتقالها إلى استراتيجية تتتناقض كلياً مع منطلقات فتح.
لقد عمد ميسرة إلى توثيق العلاقات بحركة حماس منذ 1989، مدرباً وناقلاً لتجارب المقاومة. وسعى لتوسيع جبهة المقاومة. مع الإحتفاظ بروح المقاومة على مستوى فصائل المقاومة على مستوى م.ت.ف. وحافظ على هذا النهج بعد اتفاق أوسلو الذي رفضه واعتبره ضربة قاسية نزلت بفتح وبالقضية الفلسطينية. ولكنه بعد فترة ارتأى أن يستغل إمكان الدخول إلى الأرض المحتلة وفي ذهنه أن يصبح أقرب للعمل المقاوم لا أن يضع نفسه في ركاب اتفاق أوسلو وتداعياته السياسية.
وهذا الرأي أخذ به أَخَوان آخران له هما جهاد العمارين ومروان زلوم. ولكن هذا الرأي كان مدعاة لخلافية داخلية بين أبناء التيار الذي أسّسه أبو حسن قاسم وحمدي وسعد. والخلافية كانت حول مدى إمكان أن تواصِل المقاومة في ظل اتفاق أوسلو والسياسات الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادة فتح. وذلك حين يُصار إلى الإنخراط في أجهزة السلطة التي ستتشكل لقمع المقاومة المسلحة.
كثيرون من أبناء فتح الذين عادوا من الخارج إلى الأرض المحتلة تحت مظلة أوسلو راحوا يسوّغون ذلك ليس من خلال قناعة بالإتفاق وإنما من أجل المقاومة من الداخل، ومن وراء ظهر السلطة. لكن الأغلبية أصبحت أسيرة أجهزة السلطة السياسية والعسكرية، ولم يشذ إلاّ قلّة كان في مقدّمهم جهاد العمارين ومروان زلوم وميسرة أبو حمدية الذين أسّسوا بدايات انطلاق كتائب شهداء الأقصى إذ حافظوا على عهدهم مع أنفسهم بأن يواصلوا طريق المقاومة، فكانت لكل منهم قصته ومأثرته التي حوّلته إلى منارة مقاومة راحت تضيء الظلام الذي أرساه اتفاق أوسلو مشوِّهاً تاريخ فتح في إطلاق الكفاح المسلح وتثبيت هدف تحرير كامل التراب الفلسطيني.
أما قصة ميسرة فكانت دوره السرّي في التدريب وتصنيع المتفجرات وتهيئة كوادر المقاومة من أبناء فتح الذين انضموا إلى كتائب شهداء الأقصى ومن أبناء حركة حماس. فأبو طارق كان من أوائل الذين أدركوا أهمية دعم حركة حماس وحركة الجهاد إلى جانب العمل لاستعادة أبناء من فتح لدورهم المقاوم. ولهذا عندما اعتقل عام 2002 وعُذِّب وصدر ضده حكم بالسجن 25 عاماً، ثم حُوِّل إلى مؤبد، كان من بين التهم تدريبه لمقاومين من حركة حماس.
عند هذا الحدّ يجب أن يُذكَر للحقيقة التاريخية أن ولادة كتائب شهداء الأقصى المتناقضة 180 درجة مع اتفاق أوسلو ما كان ليحصل لولا الدعم الخفي الذي قدّمه الرئيس ياسر عرفات والذي أوصل إلى حصاره والتحريض ضده داخل فتح وم.ت.ف ثم اغتياله ليسقط شهيداً على يد حكومة شارون.
هذا التحوّل جاء بسبب تهاوي الكثير من الأوهام التي سوّغت اتفاق أوسلو كما بسبب استمرار المقاومة من خلال حركتي حماس والجهاد. وقد تعرضتا للقمع والتنكيل من قبل أجهزة السلطة كما للقتل من قبل العدو الصهيوني. ولكن جاء اندلاع الإنتفاضة الشعبية الثانية ليُعطي زخماً أكبر لتصعيد المقاومة وسقوط اتفاق أوسلو عملياً. وهو ما يُسجَّل لعرفات قبل استشهاده.
فهذه الظروف هي التي أفاد منها الشهداء الثلاثة مروان زلوم وجهاد العمارين وميسرة أبو حمدية وهي التي لم تكن في حسابات اتفاق أوسلو بدليل معارضة محمود عباس وعدد من قيادات وكوادر فتح وم.ت.ف لياسر عرفات واستمساكهم باستراتيجية التسوية والمفاوضات وتوقيعهم الاتفاق الأمني وتسليم دايتون بناء أجهزة أمنية على قياس أميركي- صهيوني ودعمهم لحكومة سلام فياض التي وُجِدَت لتنفيذ الاتفاق الأمني وقمع المقاومة أو أية محاولة لانتفاضة ثالثة.
وإذا كان جهاد العمارين ومروان زلوم قد استشهدا في ميدان القتال فإن ميسرة الذي أُسِرَ أكمل الطريق نفسه في رفع معنويات الأسرى وتوحيد صفوفهم والسعي في السنة الأخيرة لنقل قضيتهم إلى قضية انتفاضة شعبية ثالثة باعتبارها الأسلوب الثاني إلى جانب أسر أفراد من جيش العدو يسمح بإطلاق سراحهم. وحتى فرض تبييض السجون ودحر الإحتلال وتفكيك المستوطنات.
هذه الرسالة الأخيرة هي التي تركها ميسرة للشعب الفلسطيني وفي أعناق فصائل المقاومة جميعاً. وقد سعى داخل السجن أن يوحّد موقف الأسرى من فتح والجهاد وحماس ليتحدّوا ويجعلوا قضية الأسرى تتجاوز ما عُرِفَ بحقوق السجين أو لتلبية مطالب الأبطال الذين خاضوا معركة الإمعاء الخاوية بالرغم من عدالة القضيتين.
نعم، يجب أن توضع قضية تحرير الأسرى من خلال انتفاضة شعبية جنباً إلى جنب مع قضايا دحر الإحتلال وتفكيك المستوطنات واستنقاذ القدس من التهويد. وهي الرسالة نفسها التي تركها استشهاد عرفات جرادات تحت التعذيب ويحملها الأبطال الذين خاضوا معركة الإضراب الأسطوري عن الطعام بإمعاء خاوية وأجساد متداعية.
أسلوبان أو طريقان لا ثالث لهما يمكن أن يُطلقا الأسرى: الأول مجرّب وهو التبادل بأسرى للعدو. والثاني جاء أوانه مع ما حدث من تغيير في ميزان القوى والظروف الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية في غير مصلحة الكيان الصهيوني وذلك بإطلاق انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية لا تستطيع احتمالها حكومة نتنياهو وإدارة أوباما. ولهذا جاء أوباما ليضغط ويُغري بدفع الرواتب مقابل أن تقف سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية في وجه اندلاع الإنتفاضة الثالثة.
وبكلمة، لا نصرة حقيقية للأسير ووفاء للشهداء في هذه المرحلة غير الإنتفاضة ولا دحر للإحتلال ولا تفكيك للمستوطنات ولا إنقاذ للقدس والمسجد الأقصى إلاّ الإنتفاضة.