تأليف: إياد الرفاعي
منبه الهاتف يرن.. مد يده نحو جهاز التحكم لتيقظه فيروز، سقط جهاز التحكم على الأرض، فلم تغنِ فيروز، أفاق على صوت خيبته، توجه ليغسل وجهه فلم يجد ماءً في الصنبور!
أخذ زجاجة ماءٍ من البراد ليُعد قهوته الصباحية متأملًا أن تتكفل بإيقاظه.. كانت عيناه تغليان كما الماء في الركوة، نظر لعبوة القهوة و اذ هي فارغة!لملم ما تبقى من خيباته و ارتدى ثيابه خارجًا الى عمله. وقف بناصية الشارع ينتظر سيارة الاجرة التي اعتاد ركوبها كل صباح..تأخرت السيارة عن موعدها ربع ساعة فاضطر ان يستقل الحافلة..
والحافلة في فلسطين – أو ما تبقى منها- كما جميع الدول العربية، ركوبها يعني أن تصبح فردا اضافيًا بعائلة كل راكب!
تلك عجوز تتكلم مع نفسها، تلعن العمر الذي باغتها، جاعلًا منها عجوزا لا تقدر على المشي الا بصعوبة، وتلعن داء السكري الذي حرمها من التهام الحلويات!
رب أسرة في أواخر عقده الثالث يدخن سيجارة ذات رائحة منتنة تقراء في سمرة وجهه هموم الأمة العربية من مغربها الى مشرقها. شابٌ جامعي يستحضر داخل عقله صورة محبوبته التي سهر الليل و هو يكتب لها قصيدة، بجواره شاب جامعي آخر يخفي بين كتبه منشورات حزبية تلعن أوسلو وما تمخضته، ليوزعها على رفاقه الطلبة في الجامعه..
خرج من جميع تلك البيوت و أغلق أبوابها خلفه، نظر من نافذة الحافلة لتخترق عيناه جدار الفصل المقيت ذاك..
استذكر شقيقه الذي استشهد عندما وقف بوجه جنود الاحتلال وجرافاتهم حينما ارادوا أن يصادروا الأرض التي أورثهم اياها جده، لصالح بناء الجدار، أبرق للشهيد قبلة، ثم عاد ينظر من النافذة...
اقتربت الحافلة من حاجز القهر و الذل، تبادر لذهنه انها أول مرةٍ يبصر بها هذا الحاجز الذي يمر بموازاته كل يوم مرتين على الأقل، كان يقول في سره: "هذا الحاجز اللعين اليوم ابشع من كل يوم"، و كلما اقتربت الحافلة من الحاجز كانت بشاعته تزداد أكثر فأكثر ، ومع ازدياد بشاعة الحاجز، راودته ذاكرته عن نفسه، بأحداث القضية الفلسطينية كما صعقات كهربائية تنفض جسده كلما تذكر إحداها..
كانت الحافلة تتقدم مسرعةً كما لو أن الحاجز البشع يلتهمها، فلم يستطع التحمل، خرج عن صمته و صرخ بأعلى صوته على السائق قائلاً: "توقف"!! توقفت الحافلة بموازاة الحاجز الرمادي البشع، و راح هو راكضًا نحو الحاجز ليمحو بشاعته و يبدد كل أوهامه و خيباته..
كان الصمت يهطل من السماء، وهو يزداد سرعة ليقطع المسافة التي تفصل بينه وبين الحاجز الرمادي، اجتاز المكعبات الاسمنتية ثم خرج صوت طلقة.. طلقتين..
كان صوتهما كفيلا "بإيقاظه" بدلا من صوت فيروز ...