تأليف: دينا أحمد غزال - غزة
لا أعلم لماذا أكتبُ لكَ الأن وكان الأجدر بي أن أبقيَ الكلام محشواً داخل حنجرتي، حين نادى المذياع الساعة السابعة مساءً مع صوت أذان المغرب والأفواه المستعدة للإفطار على مضض قائلاً: "الله اكبر الله اكبر أبشروا هناك مفاجأة ستكتسح صفوف العدو ستعلنها المقاومة بعد قليل" كان يجب علينا أن نأكل، أنتَ تعلم أن لا نفس لهضم أي شيء لكن لا سبيل أخر إن حياتنا مخطوفة منا على أيةَ حال، قرع الصحون بالملاعق كان أثقل من صوت معدتي المكتوية ، اذا توقفت عن الأكل ستتوقف كذلك أمي ومن ثم أبي ومن ثم الجميع، الحرب تأخذ كل شيء إنها تليق بالطريق الغائم الذى تغفو عليه السماء وتجاوره الكواكب.
سيبدأ خطاب القسام بعد قليل والجميع يلصق آذانه بشقوق الصوت القادم من المذياع وفجاةً على غير العادة أضاء الليل ، نسيت لوهلة معنى أن يكون الضوء منيراً، إنه اليوم الرابع عشر لقطع الكهرباء المستمر: الليل كان يسقينا ظلاماً مفجعاً منذ أول يوم من هذه الحرب اللعينة، شعرت أني أرى عائلتي مع الضوء للمرة الأولى منذ زمن، اذ أننا نشعر بوجود بعضنا فلا بأس بأن لا نرى. صوت أخي وضحكات الصغار وهمس أمي للإطمئنان ومفاتيح أبي في الباب تخفق إذن لا بأس بالظلام!
الواحد والعشرين من أيام الحرب، قالت لي أمي: "روحي إشحني الأجهزة" والجميع تكَّوم أمام التلفاز لمشاهدة الخطاب القسامي وبدأنا بالتهليل وصوت الطائرات إختفي من شدة صوت فرحتنا، أحضرت طبقاً وملأته بالزيتون وكأننا نشاهد فيلماً حيث أنه ما تبقي لنا من المعونة في البيت، صرّحت المقاومة بأنه تم خطف جنديَ إسرائيلي خنزير وبدأت التهليلات في الشوارع ولكنني كنتُ أعلم أن دقات قلبي هذه تعزف لحناً غريباً سيرمي صوته المخيف قريباً ،لا أعلم لماذا أنا هكذا أتوقع الأسوء ولدي حماسة زائدة واندفاع شديد نحو الموت والحزن، أفكاري المشيدة على أسوار عقلي تتوقع دائماً كارثة لتبني حجراً أخر، وكانت هواجسي والطير الذى كان فوق رأسي قبل ساعات في محلهما.
دقت الساعة الثانية منتصف الليل والقصف بدأ ينهال فوق رؤوسنا ويدق ويسحق عظام الجميع من شدته، الضوء تعب فانكفئ على نفسه وتكومنا في زاوية واحدة ،جن جنونهم لأن الجندي خطف من منطقتنا وكنت أتوقع أن يحدث هذا ،فرحة الناس لا بد أن تصبح ضباباً مع الوقت.
لم ننم ليلتها ولم يجثو رأسي من التعب رغم أن عائلتي لجأوا للنوم قليلاً بعد أن اعتادوا الصوت، يا الهي حتى النوم أصبح فوق طاقتي، عليّ أن أبقي مستيقظة خوفاً من صاروخ قادم لأنتشلهم من هذا النوم المميت، ربما كنتَ لحظتها تُسامر الرمال والبارود والعرق والجراح والرصاص هذه توليفتكم انتم المقاومين، والقذائف ما زالت تسطح بظهورنا وتسحق شيئاً فشيئاً مقاومتنا للخوف وضحكاتنا تتفتت وتهلك، لكن لا مجال للخروج من المنزل في مثل هذا الوقت أي نَفَسْ يطل على الشارع ستسحقه ألف قذيقة لينقطع الصوت ، إن واحد من عالم الأحياء مخيف لهم فكيف بعائلة.
الصوت الذى جاء وقتها من المنزل المقابل عندما كان أبوك يقول لأبي "اطلعوا من الدار إخلو في خطر عليكم" كنا نحن وعائلتك المتبقين الوحيدين في الحيّ من أهله حيث إرتحل جميع من في الحي منذ أول يوم ، لكن كيف نخرج للموت؟ لقد أخطأنا كثيراً، أنستجيب له الآن في غسق الليل؟ نموت هكذا لا أمامنا ولا ورائنا ونحن الذين شيدنا حياتنا وأعدنا بناء نفس الحجارة كل عام ،لا أحد يستيقظ كما نفعل نحن ،أنت تعلم خياراتنا محدودة بإطلاقها! أنستجيب الأن ؟ لا ..!
قدمت أختي إليّ رغيفاً فارغاً مني وبقي ساخناً في يدي كما هي الحناجر المنتظرة للقذيفة بأن تسحقنا وترسلنا متشابكي الأعضاء إلى مصيرنا، صوت المذيع الذى أصبح فرداً من عائلتنا مرتبك ومتأرجح نحو ما يحصل في منطقتنا ،لم نعد دافئين ولا واضحين ولا يوجد أي علامة للحياة، تناولنا سحورنا ونحن نعلم أننا ربما سنفطر في الجنة هذا اليوم ،الكلام يبتلعنا فقط ،دقات قلوبنا تتواصل مع إهتزاز خيوط الوسائد التى توحي بخفقانها، الصوت إقترب كثيراً وصوت الأذان انقطع في منتصفه، بعدها توقف القصف إنها حرمة الفجر، غفوت والرغيف ما زال يسخن بين يدي ،نصف ساعة و فززت على صوت أعلى، صوت أقدام وأنفاس تلهث إقتربت من النافذة، إنهما مقاومان يركضان في الشارع أسفل منزلنا ويقول أحدهم لرفيقه: "بسرعة اجري" فينزل صاروخ ليقطع قافية كلامهما ويتبعه إنهيال النافذة وتطاير الزجاج على رأسي وصاروخٌ اخر واخر على باب الدار وصاروخٌ أخر على عمود الكهرباء ليسقط غارزاً نفسه في صدري.
ارتدينا ما وجدناه أمامنا لنستر أنفسنا ولم يكن هذا صعباً فكنا نرتدي ملابس الصلاة وننام فيها حتى اذا استشهدنا نبقى ساترين لأنفسنا وخرجنا نركض وكانت عائلتك في الشارع يرتحلون معنا و كانت المئذنة ترتكز بخطوط الكهرباء المتشابكة نحو السماء والطريق بلا مستقبلين والأشجار قد نمت عليها أرواح، فتساقط مقاومان تحتها وعلى جانب المئذنة كان حنجرة المؤذن تحاورنا والخراب خراب موحش ونحن نركض بين الحكاية وبين إنتقال الروح وتسلقها من وسط الحياة إلى السماء .
نجونا وعدت للدار بعد سبعة وعشرين يوماً قضيتها في منزل من ثلاثة شقق وكنا إثنين وسبعون فرداً ومن المفترض أن شيئاً واحداً قادرٌ على النوم من أعضاء جسدي ،إما يدي اليمنى أو قدمي اليسرى لم يكن هناك مُتسع لتحريك حتى الأفكار في رأسي ،كانت معاناة من نوع آخر.
رجعنا للدار بعد أن صرّحوا أن هناك هدنة لمدة ست ساعات ،ليس مهماً، المهم الأن الكوخ، لم أجد الكوخ ، نظرت إلى التلة التى أنظر إليها طوال عشرين سنة ولم أجده، كان يلوح لي دائماً وأخبره بأسراري منذ الطفولة إنه الشيء الوحيد الذى إستطعت أن أتمسك به كطفلة إلى الآن، أردت أن أسكن فيه، كان الخط على مستوى النظر مستوٍ تماماً كإنحراف الأمة حالياً، بعيداً عن التفاصيل كان يوماً فاصلاّ أريد الكوخ لا أريد أن أسكن فيه، ارتباطي به كان بالرؤية.
مؤخراً علمت أنه في ذلك اليوم أنتَ من خطفت الجندي وكنت تلهث وتركض وأنت تحمله على كتفك أنت ورفيق لك، تعبت واختبئت في الكوخ لتلتقط أنفاسك ولكنهم التقطوا روحك وهي هادئة ساكنة، تركت المدينة.. تركت المدينة خلفك وجلست هنا لتستريح فلماذا لم يدعك الليل تُنير الضوء الوحيد على الطريق وترحل، لماذا لم ينتظرك؟ هل هذا صحيح؟ لأنني لن أفكر بالكوخ بعد هذا اليوم.
إن أمك تحتضن يومياً الشال الذى أحضروه لها منكَ مع السكين والرغيف المضرج بالدم وحذائك الأيسر المغبر . رائحة المسك تنمو على الشال والدم أنضج الرغيف ورباط الحذاء يلتف كترنيمة موسيقية حول الحكاية ،إن أمك تنتظرك وتقول أنها لازالت تسمع دعسات قدميك وراء الباب ،لا تصدق أنك إستشهدت وأن روحك طليقة وقلبك يخفق كل دقيقة شوقاً لأن تعود، فهل هذا صحيح؟ من أبصرك على ممر الموت؟ ما بالك ؟ هل ستعرف أنك ستعود؟ هل أصدق ذلك؟ أنا لم أعتد أن أكتب لأحد لا أعرفه ولكن لماذا أكتب لك الآن ورغبتي قوية في أن أحشو هذا الكلام في حنجرة كل من يعبث في هذا الكون لينطقك.
أخبرتني أمك أنك لم تحتج لوقت طويل لكي تصيب الجنود في أول معركة فعلية لكَ بعد الإنضمام إلى المقاومة ،يداكَ المباركتين حين حملت الجندي ومشيت في عتمة النفق وأقاصي التلال وكانت تبصر الطريق ،هي نفسها التى كانت تتصيد حبات الزيتون والبرتقال الناضج في بداية موسمه، وأن لسانك كان ثقيلاً فلم تتحدث حتى سن الخامسة وأول كلمة نطقتها هي (عياش) حين قدم ليسكن جاراً لكم في غزة، تحمل الرصاصات وتحشوها دون عد في المخزن فلا تزيد واحدة ولا تنقص والبائع لم يكن بحاجة إلى وزن ما تشتريه لأن يديكَ كانتا ميزاناً لعجزنا، تحمل بيدك الصبح وبالأخرى الربيع، بأنك تحفظ أسماء الشهداء كما تحفظ أسماء الأنبياء وكنت ماهراً في عد أرقام الجنود الذين تقتلهم وتحفظ عدد أصابع البلاد وعدد الأحاديث .
قضينا واحد وخمسين ليلةً في الحرب كان الخمسين فيها حرباً وكانت ليلة رحيلك هي ليلة القدر في رمضان ،إن نظام الأرقام يعقدني ورحيلك يقترب ليكمل عاماً الآن فلماذا أعد؟ لماذا وقد فشلت في أن أحفظ عدد أسناني وعدد سور القرآن والأحاديث؟ كل من يعرفك يقنع أمك بأنك إستشهدت وكنتُ منهم ولكني الآن بت مصدقة أنك سترجع، روحك الثقيلة على هذا العالم برحيلها ستكون محلقة خفيفة بعودتها .. خفيفة جداَ .. !