شبكة قدس الإخبارية

سردية | رغم أنفي سأبقى

هيئة التحرير

تأليف: ساره ماهر الكحلوت - غزة

آخر نظرة ألقيتها على مطار غزة أو بشكلٍ أصدق المعبر الذي قضيت فيه أسبوعين متكئاً على شبه كرسي لثلاثة أيام وعلى الأرض بجانب الناموس لخمسة عشر يوماً اُخر ، كانت نظرة كاذبة ، لا أعرف لماذا كُنت أقنع نفسي بأنني سعيدٌ لأنني سأرحل من هنا، كانت نظرة خاطفة سريعة دامعة غضضت طرفي عن المدينة بسرعة كبيرة، كابرت وتنهدت بعمق تمتمت تمتمات لا أذكر ما قلته فيها، ثم نطقت "وأخيراً" ومضيت.

مضت الست أشهر الأولى بشكلٍ جيد على الأقل شهادة الجامعة المركونة منذ ثلاث سنوات تُعطى شيئاً من الاهتمام ، هنا في الغرب لا يعرفون الفلافل لذلك لم ينصحوني بأن ألفه بشهادتي.

الدوام يأخذ جُل وقتي فلا متسع حتى للتفكير، أحمل نفسي أرسل لأهلي بعض النقود ، مكالمات قصيرة مع الأهل والأصدقاء وبعض الدموع تتسلل إلى معجون الحلاقة على وجهي وأنا أمام المرآة صباحاً ، لم أكن أستطيع أن أتنكر للوطن بهذه الطريقة حاولت مراراً بأن أنغمس بعمقٍ شديد هُنا في الناس الذين لا يعرفون شيئاً عن الدماء والبيوت المهدّمة ،لم أكن أعرف بنفسي على أنني من غزة فلم أكن بحاجة لأن يربتوا على كتفي مع "Sorry" وكان بعضهم لا يدرك ما الذي يحدث فيها بالضبط أو لا يعرفها ! أما أنا فأعرفها جيداً وأنكرها لكنها لا تنكرني وتعرفني كما تعرفني أمي.

كنت أشغل نفسي بأي شيء يريحني من صوت الضمير فقد أقسمت بعدما أطلقت عليها كل الشتائم بان لا أعود إليها ولا أريد حتى أن أدفن بها كما كان يفعل أقاربنا في السبعينات والثمانينات بعد عودتهم من الكويت أو غيرها ، أتذكر أحمد الذي كنت أقول له هذا الكلام فينظر إليّ بغضب ثم يبتسم رغم أنفك ستعود ولن تطل الغياب وكنت أقسم له أني لن أفعل إذا ما كتب الله لي عمراً جديداً وخرجت منها ، وحين رحلت كان وجه أحمد المليء بالدماء والذي بالكاد عرفته لا يفارقني و صدى كلماته الأخيرة يتردد في أذني، قال لي البعض أن الحياة في أوروبا مختلفة وستنسيك كل شيء  استشهاد خطيبتك وصديق طفولتك وبيتك الذي بنيته حجراً حجراً بشق النفس.

كل شيء سيكون أسهل فلا جدران هناك مليئة بالكتابات الثورية ولا أبراجٌ ثقبتها القذائف ولا حارات مسحت عن الوجود .

تجربة ركوب سيارة والمشي بها من مدينة لأخرى كان أمراً عظيماً بالنسبة لي وتجربة فريدة لم أحلم بها ولو لمرةٍ واحدة في غزة ولكن الأمر المستهجن من رفاقي في السكن هو إطفاء الأنوار والجلوس في الظلام فالكهرباء المتوفرة طوال اليوم كانت توتر أعصابي بشكلٍ كبير.

التحقت بإحدى الجامعات لدراسة الماجستير، الدراسة هنا صعبة للغاية ولكنهم على الأقل يحترمونني كطالب علم . أصبح الوضع أفضل من السابق بدأت بالتأقلم وإن كان هذا التأقلم يسير بشكلٍ بطيء ، الأجانب هنا لُطفاء وينهون النقاشات بود ،أفتقد للعقل الفلسطيني الصعب الذي لا يقتنع العنيد بكل شيءٍ ،تكوين الصداقات هنا ليس بالأمر السهل فالجميع يركض لنفسه ،إلا أن التجمعات العربية كانت تأخذ منحى واضح هو منحى البكاء على الأمجاد الضائعة وعلى الذكريات التي تاهت في سراديب الثورات العربية ونازية الأنظمة. فكان من السهل أن تصادق عربي مغترب لتبكي معه .

بدأ وضعي النفسي الصعب يتفاقم فأنا من تعود على الأخوة والأخوات والجيران ودعاء جدتي. الآن أنا وحيدٌ .أتصل على صديقي السوري ونجلس معاً نترحم على الأيام الخوالي.

وفي إحدى الليالي ضعفت لدرجة الاختناق ولم أهاتف صديقي الذي كان يصبرني على الأغلب ويطرد من رأسي فكرة العودة فهاتفت أمي وقلت لها أنني أريد الزواج فسألتني إن كنت أريد الرجوع والزواج هناك أم يرسلوا لي عروساً ستكون على الأغلب ابنة خالي ،كانت نبرة صوتها توحي بالجدية وكأنها كانت تنتظر هذا الطلب منذ فترة طويل فأغلقت الهاتف وألقيت بنفسي على السرير دون أن أنبس ببنت شفة.