من المحتمل جدًا أن يُنشَرَ هذا المقال في وقت أصبح فيه من المؤكد صحة الخبر عن إعادة انتخاب خالد مشعل، للمرة الرابعة، رئيسًا للمكتب السياسي لـ"حماس" بالتزكية. فبعد تأخير طال واستطال حوالي عام تم حسم هذا الأمر.
فطوال العام الماضي كان من المفترض أن يُعقد اجتماع لمجلس شورى "حماس"، ولكنه لم يعقد لأسباب مختلفة تحدث عنها الناطقون باسمها، مثل تعذر إجراء الانتخابات في الضفة الغربيّة والمعتقلات، أو صعوبة إجرائها في الخارج، بعد خسارة سوريا وما كانت تمثله من قاعدة آمنة تمتعت فيها بحريّة الحركة وعقد الاجتماعات متى شاءت. أما الآن، فأكد لي أكثر من قائد في "حماس" أن عدم موافقة أي بلد على عقد الاجتماع على أراضيه أو عدم وجود مكان آمن لعقد الاجتماع هو أحد الأسباب التي حالت دون عقده حتى الآن.
كما أن التعقيدات بعد استحداث إجراءات انتخابيّة تتيح إمكانيّة الاعتراض على نتائج الانتخابات قضائيًا سبب من أسباب التأخير، حيث اعترض العديد ممن لم يحالفهم الحظ في الانتخابات وقبلت اعتراضات العديد منهم، ما أدى إلى إعادة الانتخابات في بعض المواقع. وعلى الرغم من أهميّة الأسباب المذكورة آنفًا، إلا أنها لوحدها لا تفسر كل هذا التأخير.
فإعلان خالد مشعل عن عدم رغبته بالترشح، ثم عودته عن ذلك؛ بسبب الاستقبال الحار له من "حماس" غزة، ومن الجماهير، ومن تدخلات جماعة الإخوان المسلمين، وأطراف إقليميّة وعربيّة (مصر وتركيا وقطر) يعد من أهم أسباب التأخير، خصوصًا في ظل تقدم أكثر من مرشح معروف منهم موسى أبو مرزوق وإسماعيل هنيّة.
فخالد مشعل مطلوب إعادة انتخابه لأسباب فلسطينيّة لأنه منفتح على إنجاز المصالحة، وعربيًا وإقليميًا ودوليًا لأنه يدعو إلى اعتدال "حماس" سياسيًا، وحمساويًا لأن انتخاب أحد منافسيه يمكن أن يحوّل "حماس" إلى تنظيم محاصر في غزة، في حين أنها تطمح إلى قيادة الفلسطينيين. لا يمكن إسقاط أن الخلافات التي ظهرت بصورة لم يسبق لها مثيل بعد "إعلان الدوحة" الذي وقعه مشعل من دون الرجوع إلى مؤسسات الحركة؛ لعب دورًا ملموسًا في التأخير، حيث عارضه علنًا عدد من قيادة "حماس"، أبرزهم محمود الزهار، وصولًا إلى وضع المكتب السياسي استدراكات على "إعلان الدوحة" أدت إلى استحالة تطبيقه بالرغم من إحيائه مجددًا فيما بعد بالاجتماعات التي عقدت في شهري كانون الثاني وشباط الماضيين، حيث اتفقت "فتح" و"حماس" على جدول زمني لتطبيق اتفاق المصالحة. لا يمكن فهم ما يجري في "حماس" من دون رؤية تأثير الثورات العربيّة وصعود الإسلام السياسي والمتغيرات الإقليميّة والدوليّة، وفي ظل التراجع النسبي لدور الولايات المتحدة الأميركيّة وتقدم أدوار تركيا وإيران وأوروبا، ومع استمرار غياب الدور العربي الذي يشهد أسوأ مراحله بالرغم من الآفاق الرحبة التي فتحها "الربيع العربي" الذي يتعرض لثورات مضادة وإلى مؤامرات داخليّة وخارجيّة تهدف إلى احتوائه وإجهاضه وإعادة إنتاج الأنظمة العربيّة المنهارة بأشكال جديدة.
في اعتقادي، إنّ المفارقة تكمن في أنّ "حماس" كانت ضحيّة للثورات والمتغيرات أكثر ما استفادت منها كما كانت تتوقع، حتى الآن على الأقل، فـ"حماس" خسرت سوريا وإلى حد ما إيران وحزب الله وما كان يسمى محور الممانعة، وربحت قطر وتونس ومصر. من سخرية القدر أن "حماس" تعاني اليوم في العلاقة مع مصر -التي يحكمها تنظيم تمثل "حماس" امتدادًا له - من صعوبات غير مسبوقة؛ تظهر في تدمير الأنفاق وتعرض "حماس" لحملة سياسيّة وإعلاميّة مصريّة ضخمة إلى حد لا يكاد يمضي أسبوع واحد من دون توجيه اتهام جديد لـ"حماس" حول مسؤوليتها عن اعتداءات أو جرائم تصب في سياق مساعدة الإخوان المسلمين في مصر ضد نظام حسني مبارك والمجلس العسكري، وصولًا إلى مساعدة الرئيس المصري الجديد وجماعته.
هذه الحملة الظالمة واسعة جدًا، ووصلت إلى حد رفع قضايا في المحاكم ضد "حماس"، واحدة منها تهدف إلى إصدار حكم قضائي لمنع أفراد وقيادات "حماس" من زيارة مصر. إن بشاعة هذه الحملة أنها تحمّل "حماس" أوزار الحكم الجديد في مصر، لأنها امتداد فلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، وأنها لا تفرق بين "حماس" والفلسطينيين، ولا بين الحقيقة المتمثلة بأن وجود حالة الانقسام الفلسطيني والأنفاق الضروريّة لغزة في ظل الحصار يساعد على التهريب بكل أنواعه من وإلى قطاع غزة، خصوصًا تهريب السلاح، الأمر الذي يساعد الجماعات السلفيّة الجهاديّة وكل من يريد أن يعبث بأمن مصر في ظل الوضع الحرج الذي تعيشه، والموجود في سيناء وقطاع غزة؛ وبين المبالغة المخلّة بالواقع التي تصور "حماس" كتنظيم أسطوري مسؤول عن كل الشرور التي تتعرض لها مصر، وقادر بقدرته الجبارة على مساعدة الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين التي تضم في صفوفها أكثر من مليون عضو، كما أشارت التقديرات في أواخر عهد حسني مبارك، فكيف الآن بعد أن فازت بالحكم عن طريق صناديق الاقتراع.
ولا تكتمل الصورة من دون أن نشير إلى انعكاس الثورات والمتغيرات على "حماس"، إذ أدت إلى نوع من عدم التوازن لديها، فانتقال مركز قيادة حماس من دمشق إلى قطر ومصر ليس مجرد انتقال جغرافي، بل ترتّبت عليه أثمان سياسيّة باهظة، وهناك في "حماس" من أدرك ذلك، ويستعد لدفع الثمن السياسي المترتب على صعود الإسلام السياسي واستلامه الحكم في مصر وتونس وزيادة نفوذه في بقيّة بلدان المنطقة العربيّة التي شهدت ولم تشهد ثورات، وحاجته إلى دعم الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأميركيّة للفوز بالحكم والمحافظة عليه. هناك في "حماس" من رأى ضرورة مساعدة الإخوان المسلمين على عقد صفقة مع الغرب وما يترتب عليه من اعتدال إضافي لـ"حماس"، على أمل أن يساعد ذلك على حصولها على الشرعيّة العربيّة والدوليّة، وهناك في "حماس" من يرى أن صعود الإسلام السياسي يتطلب تشددها أكثر أو تمسكها بموقفها الحالي على الأقل.
فالمطلوب من "حماس" أن تواصل بسرعة أكبر اعتدالها حتى تقبل كلاعب رئيسي فلسطيني أو حتى كقيادة جديدة للفلسطينيين، وهذا يعني قبول شروط اللجنة الرباعيّة وما تتضمنه من اعتراف بإسرائيل ونبذ المقاومة ومحاربتها والالتزام بالاتفاقيات الفلسطينيّة – الإسرائيليّة، وهذا إن حدث يعني أن "حماس" خرجت من جلدها، وتخلت عن المقاومة رافعة نهوضها، وأصبحت "حماس" جديدة، وفضلت السلطة والمنظمة والقيادة على الأهداف والحقوق والمقاومة والأيديولوجيا مقابل لا شيء سوى الاعتراف بها وبدورها، لأن المعروض على "حماس" أن تقبل شريكًا في المنظمة والسلطة، ويمكن أن تقبل في المستقبل كقيادة للفلسطينيين إذا أثبتت جدارة أكبر من جدارة فتح في الالتزام بتطبيق الاتفاقيات.
أما الأهداف الوطنيّة الفلسطينيّة فستكون مرهونة في هذه الحالة بالكامل بنجاح أو عدم نجاح المحاولات المبذولة لإحياء ما يسمى "عمليّة السلام"، التي إذا عادت إلى الحياة لن تحمل معها سوى استمرار الوضع الراهن أو إحدى صيغ الحلول الإسرائيلية. تأسيسًا على ما سبق، نستطيع أن نفهم لماذا وافقت "حماس" على أن يكون رئيس حكومة الوفاق الوطني في المرحلة الانتقاليّة هو رئيس منافستها "فتح"، بالرغم من أنه ملتزم بالاتفاقيات وشروط اللجنة الرباعيّة ويراهن على إحياء المفاوضات. ولماذا وافقت على تشكيل لجنة تفعيل المنظمة، التي لا تملك سوى دورًا استشاريًا، بدلًا من الإطار القيادي المؤقت المنصوص عليه في اتفاق القاهرة، فهي أدركت أن دخول المنظمة والسلطة هو بوابة حصولها على الشرعيّة العربيّة والدوليّة بعد أن فشلت في الحصول عليها من بوابات أخرى. فعلى ما يبدو أن "حماس" لا تريد أو لا تقدر على أن تقدم المطلوب منها مباشرة فاختارت تقديمه بصورة غير مباشرة. إن مسألة انتخاب خالد مشعل أكبر من مجرد التنافس بينه وبين "أبو مرزوق" وهنيّة وغيرهما، وإنما صراع وبحث عن موقع جديد لـ"حماس" في المرحلة الجديدة. لا مخرج لــ"حماس" من مأزقها، ولا لـ"فتح" من مأزقها، ولا من المأزق الفلسطيني العام، إلا بوحدة وطنيّة على أساس برنامج وطني وشراكة حقيقيّة. وحدة تقوي الموقف الفلسطيني العام، وموقف كل فصيل على حده في مواجهة الضغوط التي تستهدف أولًا وأخيرًا دفع الفلسطينيين لرفع راية الاستسلام عبر تصفية القضيّة الفلسطينيّة تطبيقًا لإحدى صيغ الحل الأميركي – الإسرائيلي.