حتى عظامي ستتذكّر هذا الـمشهد، صيف أيار 2003، الانتفاضة تتصاعد، الحواجز الاحتلالية في كل مكان، موجودة حتى بين عظام أجسادنا ولحمها، آلاف الفلسطينيين، من نساء وأطفال وشباب وصبايا ومسنين ومسنات، يتدفقون إلى مدخل ترابي على شكل هضبة في منطقة الجوال بالقرب من مخيم الجلزون، تجاوزاً لحاجز احتلالي شرس جداً اسمه حاجز سردا، (دلوني على فلسطيني لـم يصطل بناره؟) ذاهبين إلى رام الله حيث أعمالهم ومدارسهم وحياتهم وأسرارهم، كنت واحداً من هؤلاء ذاهباً إلى مدرستي.
أثناء فوضى الـمرور، فوجئ الناس بجنود إسرائيليين يتقدمون باتجاههم من الشارع الالتفافي القريب من الحاجز الـمذكور، بدا على وجوه الجنود بشرى الفوز بفرائس ينتظرون وقوعها في الفخاخ، هاجت الآلاف وماجت، تصاعدت الطلقات، تقتل وتجرح وتخيف، من الناس من تراجع عن الـمرور عبر الـمدخل الترابي ومنهم من نجح في الـمرور مسرعاً ومتعثراً بظلال الآخرين وصيحاتهم، ومنهم من وقف شاهراً يأسه مستسلـماً للجنود، الـمشهد الذي لن تنساه عظامي محوره مسنة تسعينية قصيرة القامة وضئيلتها، محمولة على كتفي شاب عشريني، هو حفيدها، كان يركض وهو يحملها بسرعة كبيرة وهي تولول أو تصرخ أو تبكي أو تحث الشاب على الإسراع، لـم أتبين بالضبط حقيقة الصوت.
في رام الله، كنت أقف أمام طلابي أحدثهم عن قدرنا العجيب: فنحن إما حاملون أطفالنا أثناء النكبات والهروبات الكبيرة وإما محمولون على أكتاف أولادنا، تخيلت أن هذه السيدة التسعينية كان قدرها أن تحمل طفلها أثناء الهروب الأعظم أمام رصاص الـمحتلين في العام 48، وها هي، أيضاً، تتسلّـم قدرها الآخر الجديد في هذا الهروب الصغير: أن تُحمل على كتفي حفيدها الشاب ابن طفلها الـمحمول سابقاً. سألت طلابي: من سيحمل الشاب الحفيد في هرمه القادم والهزيمة التالية أو الهروب الآتي؟
محمولون وحاملون نحن يا وطني. محمولون وحاملون... .