أصدر الرئيس مرسومًا رئاسيًّا يقضي بتشكيل لجنة وطنيّة لمتابعة المحكمة الجنائية الدوليّة، وهذا شيء إيجابيّ لأنّه يعكس إرادةً فلسطينيّةً لمتابعة وتفعيل الانضمام إلى المحكمة، وعدم الانصياع للتهديدات والضغوطات الأميركيّة والإسرائيليّة والمناشدات الأوروبيّة .
هناك الكثير مما يمكن أنْ يقال على تشكيلة اللجنة الغريبة العجيبة، إذ إنّها تضم أكثر من أربعين شخصيّةً فلسطينيّةً، معظمها من أعضاء اللجنتين التنفيذيّة للمنظمة والمركزيّة لحركة فتح، وقادة الأجهزة الأمنيّة، وممثلي وزارات وهيئات حكوميّة، ووزارة الخارجيّة التي ستتولى وفقًا للمرسوم الرئاسي أمانة اللجنة، إضافة إلى أعضاء من المؤسسات الحقوقيّة، وشخصيات تمثل المجلس الاستشاري لحركة فتح والمجلس الوطني والفصائل، بما فيها شخص ينتمي إلى «حماس».
على الرغم من العدد الكبير المهرجاني للجنة الذي يجعل العمل صعبًا إلا أنّ اللجنة لم تضم أي شخصيّة متخصصة في القانون الجنائي الدولي أو القانون الدولي، وغاب عنها أشخاص مشهود لهم وساهموا في التجارب السابقة، خاصة اللجنة الوطنيّة التي نجحت في إصدار الفتوى القانونيّة لمحكمة لاهاي، التي أعطت الفلسطينيين كنزًا ثمينًا أكثر مما توقعوا ولم يحسنوا التعامل معه، كما غاب عنها تمثيل الشتات بالرغم من انتشار اللاجئين والجاليات الفلسطينيّة على امتداد العالم، حيث تزخر بالشخصيات من ذوي الخبرة والكفاءة الذين سيضيفون للجنة إضافات مهمة. كما أنهم أحرار من الضغوط التي يرزح تحتها الفلسطينيون في فلسطين المحتلة.
كما يُلاحظ أن اللجنة لم تعكس أي تمثيل حقيقي للجامعات، وخصوصًا كليّات القانون. ربما يقال أن هذا يمكن أن يتم في اللجان الفنيّة المتخصصة، ولكن هذا لا يبرر غياب أصحاب المؤهلات في اللجنة الوطنيّة التي ستكون صاحبة المسؤوليّة والقرار.
ولا تقتصر المشكلة على تشكيلة اللجنة، وإنما تكمن المعضلة الكبرى في أن اللجنة يغلب عليها الطابع الرسمي والسياسي، ما يجعلها خاضعة لاعتبارات القيادة السياسيّة والتزاماتها، ما سيجعلها عرضة للضغوط، خصوصًا أنها لا تملك صلاحيات حقيقيّة، فوظيفتها فنيّة واستشاريّة وتشاوريّة وإعلاميّة، وتقتصر على «إعداد وتحضير الوثائق والملفات التي ستقوم دولة فلسطين بتقديمها وإحالتها إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة من خلال لجنة فنيّة ترأسها وزارة الخارجيّة، وتقرر اللجنة الوطنيّة العليا أولوياتها بهذا الخصوص، ولها الاستعانة بمن تراه مناسبًا وتشكيل اللجان الفنيّة والقانونيّة بحيث تكون اللجنة الوطنيّة العليا مرجعيّة لها».
فالمرسوم غير واضح بما فيه الكفاية لجهة صلاحيات اللجنة، فبالتالي يسمح بتفسيرات متعددة، منها أن الدولة - وفق النص المقتبس المشار إليه أعلاه - هي التي تقرر متى وكيفما أرادت متابعة تقديم الدعاوى وملاحقة القضايا المتعلقة بجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانيّة، والجرائم المستمرة مثل الاستيطان، وغير ذلك.
إن وضع الأمر كله تقريبًا بيد القيادة والدولة والرسميين ونفس الوجوه التي نراها وتتكرر في مختلف القضايا واللجان؛ يحرم الفسطينيين من مشاركة كفاءات متنوعة تغني وتساهم في التجديد والتغيير المطلوب. كما يحرمهم من أهم مزايا محكمة الجنايات التي تكمن في أنها محكمة للأفراد، يمكن من خلالها لجوء كل فلسطيني أو مؤسسة فلسطينيّة أو الدولة الفلسطينيّة إلى محاكمة الأفراد السياسيين والعسكريين الإسرائيليين الذي ارتكبوا أو ساهموا أو أصدروا قرارات بارتكاب كل أنواع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني بشكل عام، وضد شعبنا في قطاع غزة بشكل خاص، الذي عانى من اعتداءات همجيّة كبرى وجرائم حرب سقط ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شهيد وأضعافهم من الجرحى، وتدمير المنازل والمؤسسات والبنيّة التحتيّة منذ أواخر 2008 وحتى العدوان الأخير في تموز 2014.
إن القيادة ستتردد كثيرًا قبل الإقدام على أي خطوة، لأنها ستخسر من الثمن السياسي والمعنوي والمادي الذي يمكن أن يترتب عليها، كما ستضع أي خطوة في سياق استمرار الرهان على استئناف المفاوضات بعد الانتخابات الإسرائيليّة في آذار المقبل، خصوصًا إذا فاز «المعسكر الصهيوني» أو شارك في أي حكومة إسرائيليّة قادمة، وعلى وهم بأن أوباما في نهاية فترة رئاسته الثانية يمكن أن يقدم على ما لم يقدم عليه حتى الآن؛ بالضغط على إسرائيل لتقبل بإجراء تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة، ولكنّ هذه أضعاث أحلام لن تتحقق تمامًا مثل أمل إبليس بالجنة.
إن اللجنة مشكلة بمرسوم رئاسي، ورئيسها عضو في اللجنة التنفيذيّة، ولا تعقد اجتماعاتها إلا بطلب من رئيسها، مع أن من المفترض أن يتضمن المرسوم الرئاسي بندًا يطالب اللجنة بوضع لائحة داخليّة تنظّم عملها واجتماعاتها، ولا يترك الأمر كله بيد رئيسها الذي يستطيع أن يدعوها إلى الاجتماع متى يريد ولا يدعوها إذا شاء حتى إشعار آخر.
يمكن أن نفهم أن اللجنة بحاجة إلى غطاء سياسي، ولكن ما الداعي لإغراقها بهذا العدد الكبير من السياسيين وبكل قادة الأجهزة الأمنيّة، أما إذا كان المقصود الاستفادة من الإمكانيات والمعلومات التي بحوزة الأجهزة الأمنيّة، وتلك التي يمكن أن تحصل عليها، فهذا أمر يمكن توفيره من دون أن يكون قادتها أعضاء في اللجنة.
المطلوب تشكيل لجنة رسميّة وأخرى أهليّة، على أن يكون هناك تنسيق وثيق ومؤسسي بينهما، حتى يكون هناك تكامل وتوزيع أدوار مع حريّة حركة كل منهما، من دون إضرار الجانب الرسمي المقيد بالشروط والالتزامات والواقع تحت الضغوطات، وبما لا يمس حريّة الجانب الأهلي المفترض أن يكون حرًا ومطلق اليدين. فتخيلوا لو أن لجنة المقاطعة BDS مشكلة على ذات الشكل الذي شكلت فيه لجنة محكمة الجنايات. بالتأكيد، فإنها في هذه الحالة لن تحقق نصف، بل ربع، الإنجازات التي حققتها حتى الآن.
أو تشكيل لجنة مختلطة (رسمية أهلية)، ولكن بمنحها صلاحيات حقيقيّة، وأن يكون لها شخصيّة مستقلة، بحيث تستطيع أن تعمل وتقرر بمعزل عن الاعتبارات الرسميّة، ويكون قسمًا كبيرًا من أعضائها ورئيسها من ذوي الاختصاص .
تأسيسًا على ما سبق، لا يدعو تشكيل اللجنة بهذه الطريقة إلى الاطمئنان، ويذكرنا بغياب المؤسسيّة والمهنيّة والعمل الجماعي الديمقراطي، وما يقتضيه من شفافيّة ومساءلة ومراقبة، ما يزيد من احتمال إضافة لجنة مشلولة أخرى إلى حالة الشلل التي تعاني منها مؤسساتنا من اللجنة التنفيذيّة، مرورًا بالمجلس المركزي، وانتهاءً بالمجلس الوطني الغائب عن الوجود منذ فترة طويلة.
فمنذ فترة طويلة لم يُعقد المجلس الوطني، ويُعقد المجلس المركزي في فترات غير محددة من دون أخذ صلاحياته كاملة بوصفه الهيئة الوسيطة القياديّة ما بين اجتماعين من اجتماعات المجلس الوطني.
كما لم يتم خلال تلك الفترة إجراء انتخابات للمجلس الوطني، ولم يتم اللجوء إلى الوفاق الوطني البديل الوحيد الذي يمكن أن يعوّض جزئيًا عن غياب شرعيّة الانتخاب وصندوق الاقتراع، خصوصًا بعد انتهاء مدة وصلاحيات جميع الهيئات والأشخاص داخل المنظمة والسلطة.