شبكة قدس الإخبارية

في مواجهة الإبادة من القدس إلى غزة

٢١٣

 

في مواجهة الإبادة من القدس إلى غزة
زياد ابحيص

ربما يكون اليوم الإثنين 26-5-2025 أحد أشد الأيام وطأة منذ سقوط القدس والضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء في الكارثة العربية الثانية عام 1967. صحت العيون فجراً على مشهد الوردة الصغيرة وقد أيقظتها النار لتحاول شق طريق النجاة من المحرقة التي حصدت من حولها 37 روحاً، ضمن يوميات من حرق الأطفال والحصار والتجويع تتكرر منذ عشرين شهراً.

لم تلبث بعدها أن بدأت الاستباحة الأقسى على الأقصى الأسير منذ احتلاله، في عنوان بات يتكرر من اقتحامٍ إلى اقتحام، فكل عدوان بات يفرض حقائق أشد قتامةً مما قبله. اقتحام الأقصى اليوم انتقل فيه استعراض "السيادة الصهيونية" المزعومة من محاولة رفع علمٍ أو علمين إلى مسيرة أعلامٍ مصغرة ومتكررة حتى بات الأقصى ساحة أعلامٍ صهيونية؛ أما الطقوس وبالذات "السجود الملحمي" الجماعي فقد بات في كل أرجائه وصولاً إلى الساحة الغربية مقابل قبة الصخرة؛ وقد بات الأقصى مسرحاً لاستعراض الهيمنة باقتحام خمسة من أعضاء الكنيست وفي مقدمتهم كان وزير الأمن القومي الصهيوني الذي عقد مؤتمراً صحفياً أمام الجامع القبلي ليستعرض بأوداجٍ منتفخة ما "أنجزه": "فيضان من اليهود يسر العين"، وطقوس توراتية وسجود ملحمي تحت حراب بنادق شرطته، و"سنواصل" قالها ثلاثاً منتشياً بغرور القوة.

بعد هذا المؤتمر الصحفي الاستعراضي كانت جلسة مجلس الوزراء الصهيوني تنتظره لتُعقد في قلب سلوان، الحي المقدسي الملاصق للأقصى من الجهة الجنوبية حيث كانت الجلسة في حفريات اختلاق "مدينة داوود" المزعومة على أنقاض سلوان. في أنفاقها المتجهة شمالاً صوب الأقصى اختار نتنياهو أن يتحدث للصحفيين، يأتي ذلك بعد 7 سنوات متواصلة من الاجتماع في قاعة العصور التي هي في أصلها تسوية مملوكية لشارع الواد وسوق القطانين... انتقلت عين عاصفة التهويد إذن إلى سلوان، الحي الأقرب إلى البلدة القديمة وحاضنة الأقصى الجنوبية لاقتلاعه وإحلال المستوطنين الغرباء على أرضه.

مساءً، كانت "مسيرة الأعلام" تعرض الصهيونية على أصلها: استعماراً لا يحمل أي محتوىً بذاته، فمحتواه الوحيد هو محو الفلسطيني وفرض وجود يهودي في مكانه بشراً وحجراً. و"سيادة" فكرة قميئة كهذه سيادة لزجة، لا تجد وسيلة للتعبير عنها أبلغ من البصاق والشتم ورمي القاذورات في طرقات "العاصمة الأبدية" المزعومة، والاعتداء على أصحابها الذين يأبون أن يُزالوا منها مع التركيز على الأطفال والنساء تعبيراً عن ما يحمله هذا المشروع  العتيد من "رجولة" و"روح قتالية". 

ساعات وتنفذ تعبيرات السيادة، فهذه العاصمة الوحيدة في العالم التي تمتد "سيادة الدولة" عليها ثلاث ساعات ملؤها البصق والبذاءة، فهذا الإلغاء العاري هو أبلغ ما في جعبة الصهيونية اليوم من غزة إلى القدس، إذ لم تعد هناك نخبة منمقة تكسوه ريشاً أوروبياً مزخرفاً كما كان الحال من قبل، وربما كانت هذه مشكلة الغرب الوحيدة معه حالياً.

في التحريض على هذا كله كان حاخامات المستوطنات الأكثر تأثيراً في تيار الصهيونية الدينية في الطليعة، من حاخام هار براخا في نابلس إلى حاخامات كريات أربع في الخليل مروراً بحاخامات أريحا ونابلس وسلفيت والقدس. المشروع واحد لا تخطئه العين، إبادة غزة والإحلال الديني في الأقصى وتهجير الضفة وتحويلها إلى القلب النابض لـ"مملكة إسرائيل" التي يقودها الرب بنفسه هي كلها عناصر مشروع استعمار إحلالي واحد، ما زال يحاول التوسع دون أن يتصور حدوداً نهائية لهذا التوسع حتى اليوم.

يقول رفائيل ليمكين، الحقوقي البولندي اليهودي الذي نَحَت مصطلح الإبادة "Genocide" بأنها خطة منهجية متكاملة الجوانب لإنهاء شعب أو أمة بعينها، وفي خلال توضيحه لمنهجيتها يصل إلى أن ممارسة الإبادة في مجالات اللغة والدين والثقافة والأخلاق جزء لا يتجزأ من قتل الشعب ومحوه، ذلك أن الإبادة تستهدف قتل روح الشعب في الأساس، قتل العنصر المركزي الذي يميزه ويعطيه هويته، قتل المصدر الأساس لقوته الذي يمكن أن يستمد منه قوته ويستنهض عزيمته ليحافظ على وجوده... 

إبادة فلسطين اليوم تستهدف قتل روحها، بدأت بمحاولة قتل هذه الروح من القدس تهجيراً وطمساً لهوية الأقصى ومحواً لهوية هذا الشعب وأسباب قيامته، فلما وقفت غزة متقدمةً لتقول بأن محاولة قتل هذه الروح دونها إنهاء مشروعكم وتمريغ هيبة عسكركم وإلحاق الهزيمة بكم في الأرض التي ظننتم أنكم حسمتم هيمنتكم عليها؛ كان لا بد من قتل غزة جسداً وروحاً حتى تصبح الأمثولة، وحتى لا تجرؤ قوة أخرى على أن تتمسك بهذه الروح التي يراد أن تُزهق، والتي يشكل المسجد الأقصى نبض القلب فيها.

حين وقفت غزة بكل قوة وعنفوانٍ وإيمان تُركت –حتى الآن- لتكون رأساً لا حربة له، وطليعة لا امتداد لها، ما خلا محاولات دُفِع ثمنها دمٌ كثيرٌ فتوقفت في لبنان ومخيم جنين وطولكرم ونورشمس، وأخرى تقف المسافات حائلاً أمام تعميق أثرها في اليمن.

إن ما يمكن أن يدفع عن هذه الروح مصير الإزهاق هي صحوة الجسد ليستمد منها أسباب قوته، حتى لا يترك يده في غزة تبتر وحيدة... وإن جسداً روحه الإيمان والحق والعدالة، وعمقه على امتداد الأرض لن يموت، وإن كان اليوم مريضاً ومخدراً. والواجب اليوم أمام هذا الحال المفجع لكل من يريد العمل هو أن نستمسك بهذه الروح حتى يغدو إزهاقها يتطلب إبادة ملايين على امتداد العالم العربي والإسلامي بل على امتداد الدنيا بأسرها، فتكون المهمة مستحيلة، الواجب اليوم لزوم الحق أمام نفخات ريح الأهواء ومصالح الدنيا والتثاقل إلى الأرض وشراء الرضا الأمريكي واعتناق المنفعة المادية والنجاة الموهومة المُذلة ديناً ومبدأً... 

الواجب اليوم الرباط على هذا الحق مهما كان الثمن، والإدراك الواضح الناصع أن الأقصى هو راية الحق المرفوعة في هذه الأرض، وأنه لن ينتصر إلا بأن نمضي بهذا الحق من حد لزومه إلى حد إعماله بكل وسيلة ممكنة، حتى وإن جاء ذلك متأخراً.