شبكة قدس الإخبارية

نصرنا الذي يرتسم الآن في القدس

هيئة التحرير

من الأطراف إذن، حواف البلاد، ها نحن نصل إلى المركز أو القلب تاج البلاد أو مفتاحها، إلى القدس إذن، وها هي المدينة تكشف عن نفسها من ملامحها في الطريق الواصل إليها، وها هي هذه الأبنية فوق التلال المحيطة بها كأنها أبراج طفيلية تحيط بها كما لو أنها قلاع يختبئ من حولها جنود أشرار ينتظرون الوقت للانقضاض عليها. ولكنما المدينة التي تبدو في أسوارها وبواباتها ومبانيها القديمة المترامية والمسترخية، كأنما في نومها وسكينتها تسخر وتهزأ مما يجري حولها. فهنا الرمزي والجليل يتعانقان تحت قبة كأنما هي سقف الزمان الأبدي السرمدي في التحام الأرض والسماء، أو كأنه غطاء الكون وقد غطي بماء الذهب أو بماء اللهب.

هيا إذن بعد الخليل وغزة نحث السير إلى القدس، وقد جاؤوا إليها من كل أصقاع الدنيا غزاة وفاتحين وطامعين، لكن أين هم الآن؟ قال دايان قبل موته على فراش المرض في فمي كلام لا أريد أن أحمله معي إلى القبر: "لقد ذابوا هنا في هذه الرمال"، ونحن سوف نذوب مثلهم فيها. ويكتب "قسطنطين بازيلي" هذا القنصل الروسي قبل مئة وخمسين عاما، "إن الغزاة اليونان والرومان الذين مكثوا هنا ألف عام وبعدهم السلاجقة والأتراك لم يستطيعوا جميعاً صبغ هذه المنطقة والشعوب التي تسكنها بثقافتهم أو تقاليدهم، مثلما استطاع أن يفعل الفتح الإسلامي الذي أضفى طابعه وصبغته الإسلامية والعروبية عليها، ومنح هذه الشعوب هويتها وتقاليدها وثقافتها الذي يميزها إلى يومنا هذا".

فأي هراء تحاوله اليوم يا نتنياهو في تغيير الطابع الديني والثقافي والتقليدي بل والرمزي لسكان القدس الإسلامية العربية، وقد فشل في ذلك اليونان والرومان والصليبيون؟ ولكن ربما على هذا النحو يمكن تلخيص القصة.

لقد اعتقد الإسرائيليون دوما أنهم الأذكى، وأنهم على محور الزمن وعن طريق المخاتلة أو المحايلة يمكن تغيير الواقع بإرساء الوقائع الجديدة. وحتى يمد الله في أوهامهم فقد بدا في الآونة الأخيرة كما لو أن الرياح تدفع في أشرعتهم، وعلى قاعدة إذا هبت رياحكم فاغتنموها، فقد كان لصمت المدافع وانهيار الجيوش العربية نفسها التي حاربتهم فيما مضى، بل وغرق العرب في حروبهم الداخلية وقع مؤثر عليهم لاغتنام الفرصة السانحة والتي لا تتكرر. وكان تصفيتهم لعرفات الذي رأوا فيه عقبة، ومثل لهم "الثور النطاح" قد مد في اعتقادهم أن خليفته الذي لا يحب ارتداء البزة العسكرية، ويفضل المقاومة الناعمة انه يمكن الالتفاف عليه لأنه أضعف من سلفه من أن يعترض طريقهم.

لكن الذي حدث ولشدة غبائهم في تجاهلهم لفلسفة التاريخ وجدوا أنفسهم بعد أن تخلصوا من قتال الجيوش التقليدية، يواجهون جيوشاً لا قبل لهم بها ولم يعدوا أنفسهم من قبل لمحاربتها، وهي الجيوش الجديدة التي ورثت الجيوش التقليدية الدولانية القديمة، وفيما كانت الجيوش العربية تخرج من المعادلة، وينهي هذا الخروج الدور التقليدي الوظيفي لإسرائيل كوكيل أو مخلب قط أو كلب للحراسة، وشمرت أميركا نفسها عن ساعديها للتدخل بنفسها، فإن الفراغ الذي تركه العرب سوف يملؤه الأمريكان أنفسهم والغرب.

إن التحول الاستراتيجي الأكبر بهذا المعنى منذ حرب العام 1967، التي شهدت ذروة التحالف الأميركي مع إسرائيل والرهان عليها كوكيل في المنطقة، إنما هو الأزمة، وأكاد أقول فك هذا الرهان الأميركي والغربي على إسرائيل، وان الضربات بل الحرب الحقيقية التي نرى إوارها اليوم على نار هادئة إنما هي الحرب الدبلوماسية على المسرح الدولي لعزل إسرائيل ونزع الشرعية عن احتلالها فلسطين. وانه في غضون ذلك يجب أن نفسر كمية التحريض الشخصي على الرئيس أبو مازن من قبل إسرائيل كجوقة مشتركة.

والرسالة جاءت قوية وواضحة وهذه المرة من أوروبا، من مملكة السويد، أنه لا يمكن السماح بتقويض الأساس الذي تقوم عليه الدولة الفلسطينية، وانه لا يمكن السماح مرة ثانية بإهدار مبدأ العدالة التاريخية الذي نادى فيه الكونت برنادوت وقتل من أجله. هل كان هذا ثأراً متأخراً بعد سبعين عاماً للكونت السويدي الرجل النبيل الذي قتلته العصابات الإرهابية اليهودية في القدس؟ أم هي إيماءة الإمبراطورية أو غمزة أوباما للبدء بمعاقبة الرجل الجبان والدولة الناكرة للجميل؟.

ربما هذه الأسباب ولكن أيضا غيرها، وهي نقطة التحول الثانية، وهذه مفادها التالي: في عقد الثمانينات وبعد صدور بيان البندقية الشهير حللنا في مكان آخر مكنون الموقف الأوروبي، ورأينا آنذاك أن أوروبا إنما تلعب في حدود هامش ضئيل، تسمح به وتحدده الولايات المتحدة التي تحدد أو ترسم قواعد اللعبة للأوروبيين. فهل نرى اليوم انقلاباً في القواعد والمعادلة تقوم فيه أوروبا برسم وتحديد هذه القواعد؟ وتترك للإمبراطورية هامش المناورة وهو هامش ما برح يضيق أمامها؟ وهو تحول لا يتعارض من وجهة نظر أُخرى مع نظرية أوباما عن القيادة من الخلف، من الصفوف الخلفية. وما يؤيده أي هذا الافتراض أو التفسير الأخير حقيقة أن الاعتراف السويدي بالدولة الفلسطينية، إنما يحدث بالتزامن مع التسريبات الأميركية للصحافة عن سيل الأوصاف والنعوت القبيحة لشخص بنيامين نتنياهو، وهو ما يمثل ذروة السجال والأزمة غير المسبوقة بين الطرفين. حين كان الأميركيون في الماضي يحرصون على إبقاء انتقاداتهم لإسرائيل في الغرف المغلقة، وهذا تحول آخر.

لكن هذا التحليل سيظل قاصراً ما لم يرتبط أخيراً بدلالته الأعم عند هذا المفترق. وهو أن المسعى الأوروبي الأميركي حتى وفق فرضية توزيع الأدوار، إنما ينطلق من دافع رئيسي وهو الربط بين التطرف الإسلامي والمظلومية الفلسطينية، بسبب تمادي التطرف الإسرائيلي الذي بلغ حدودا لا يمكن قبولها كما حدث في الحرب الأخيرة على غزة، وان هذه اللا عقلانية الإسرائيلية التي تصل حد الجنون والعصاب الهستيري، هي التي استدعت من الأميركيين والأوروبيين الانتقال على عجل من خلف الستارة، إلى الجلوس مباشرة على طاولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، والتدخل المباشر للتأثير على هذه المفاوضات كما مجريات الأحداث. فيما يشبه الجلوس مباشرة على الطاولة في لعبة البوكر والتلويح بورقة الصولد.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار هنا المفاجأة المقدسية التي لم تكن أقل دراماتيكية من المفاجأة الغزية في الحرب الأخيرة، حيث لم يقو الاحتلال على مواجهة الانتفاضة المتواصلة منذ الأشهر الأربعة الماضية في القدس، فإن البطاقة الحمراء إنما تجسدت في اليومين الأخيرين بالنقلة النوعية التي حدثت بعد عملية الخليل التي أشعلت كل هذه النيران، إذا كان الفلسطينيون ينفذون لأول مرة عملية اغتيال حرفية ومهنية عالية على طريقة عمليات الموساد الخارجية في أوروبا وإيران، حتى لتبدو محاولة اغتيال المتطرف "يهودا غليك" بالدراجة النارية والرصاصات الأربع من مسافة الصفر، بعد التأكد من هويته بنفس الطريقة التي نفذ فيها الموساد عملية اغتيال فتحي الشقاقي في جزيرة مالطا في مثل هذه الأيام قبل 14 عاماً.

فكيف يمكن بعدئذ تغيير طابع ووجه مدينة تختزن تحت قبتها كل هذا الغضب والانفجارات، التي من شأنها أن تهز الأرض والسماوات؟ وهو اهتزاز فعلا يا ليبرمان أعقد وأكبر من تراكيب شركة المفروشات السويدية، والذي يمهد اليوم لإعادة تركيب دولة فلسطين والشرق الأوسط، انطلاقاً من مركز القلب أو النقطة الوسطى بعد ثني وثلم رأسَي الرمح من الشمال والجنوب. وهو جوهر ومغزى معركة القدس الجارية اليوم والتي ترسم ملامح النصر الفلسطيني القادم بعد أن بدأت ملامح هزيمة إسرائيل في هذه المعركة.

بقلم: حسين حجازي