شبكة قدس الإخبارية

فتحي الشقاقي ... الشهيد الإنسان

فاروق موسى

لم يَعُد تشرين شهراً عادياً في عقول وقلوب من تعمّدوا بحب القدس وفلسطين حتى سيطرت على كيانهم ووجدانهم، فصار وهجُ الشهادة في تشرين عطراً فواحاً يكشف عن مكنون الحبّ والعشق الدفينيَن في تلك القلوب ليكون هادياً ومرشداً نحو مدرسةٍ اختلط بنيانها بدماء قمر الشهداء فتحي الشقاقي الذي عاش غريباً واستشهد غريباً ليُتوّج جهاده في تشرين بشهادةٍ لطالما انتظرها واستعذب طعمها.

أتناول في هذه الذكرى الطيبة صفات الشهيد الشقاقي التي جعلت كل من عايشه وعرفه عن قرب على قناعة تامة بأن هذا الشخص يستحق لقب "القائد الإنسان" قبل أن يحوز بجدارة على لقب القائد السياسي أو القائد المفكر.

فالذي يبحر في حياة الدكتور الشهيد يكتشف أن حياته كانت تصديقاً واقعياً لصفاته التي تحلّى بها، وأنّ هذا القائد إنسانٌ جمع من الصفات ما يندُر أن يتصف به غيره مما أهله للحصول على إجماع واحترام كل من جالسه أو تعرف إليه. حتى وصفه أحد رفاق دربه في جملة جزيلة جمع بها صفات الشهيد قائلاً :" كنتَ من بيننا الرجلَ (البُندقة) التي لا تنكسر، هشاً من الداخل كحمامة، قريباً كالمطر، دافئاً كبحر أيلول، وشهياً كبداية الطريق".(1)

كان الشقاقي حازماً ذا إصرارٍ شديد ومُرهف الإحساس في آنٍ واحد. فكان كثيراً ما يستخدم كلمات العاطفة والوجدان في خطاباته حتى يُحيل الفكرة إلى كائنٍ خفي ذي روحٍ مما يجعلها قابلةً للتسلل إلى قلب من يستمع إليه قبل أن تتسلل إلى عقله فتغدو أكثر رسوخاً. ولقد بدا ذلك جليا في انتقائه للكلمات خلال حديثه عن ثلاثية الإسلام والثورة وفلسطين التي أصبحت فيما بعد عنواناً بارزاً لشخصيته.

تتحدث الروايات الشفوية لمن عاصروا الدكتور الشهيد في بدايات تأسيس حركة الجهاد الإسلامي عن صفاتٍ كثيرة اتصف بها الشهيد وتميز بها عن غيره. فعن تواضعه يقول أحد من عاصروه في سوريا: "لقد رأيت الدكتور وهو الأمين العام للحركة يقطن في منزل متواضع في ركن مخيم اليرموك، ينزل إلى سوق المخيم ويحمل بيديه أكياس النايلون المعبأة بالطعام، لا يحرسه أحد ولا يحمل عنه أحد، يذهب إلى المخبز ويقف في الطابور لشراء ما يحتاجه من الخبز، ويذهب إلى البقال ليلتقط ما يحتاج بيديه ثم يذهب إلى دكان الفوّال لشراء صحن الفول لعائلته. وكان في تنقلاته يفضل ركوب المواصلات العامّة وينتظر دوره كما باقي الناس للصعود والهبوط، وكان قليلاً ما يأخذ سيارةً خاصة لقضاء مصلحته".

ويستطرد الراوي قائلاً: " كان الدكتور الشهيد يفضل السير في أزقة المخيم وطرقاته بمفرده بلا مرافقين أو حرّاس، يجلس في مطاعم المخيم البسيطة، يأكل مع بسطاء المخيم يجالسهم ويخاطبهم ويتمشى معهم، ولم يخطر ببال أحدهم مطلقاً أنهم أمام قائد تنظيم مهددٍ في حياته في كل لحظة".

لم يَرِد فيما وصلنا من رواياتٍ شفوية لرفاق الشهيد أنّه كان فظاً غليظاً مع من هم حولَه ولا حتى مع من تسببوا له ولرفاقه بالأذى أو المضايقات. فعلى سبيل المثال وعند بدايات العمل التنظيمي في عام 1982 وعندما كان "المنافسة" شديدة وكان أبناء حركة الجهاد الإسلامي يتعرضون للمضايقة من الآخرين، كان يخاطبهم بلغة المتسامح طيب القلب فيقول: "يا إلهي .. هل يمكن أن يقوم أبناء طيبون ينتسبون إلى القرآن وفي هذا العالم بنفس الدّور، يا إلهي .. نتوسل إليك - ليس لأجلنا فقط بل لأجلهم أكثر- أن تنقذ أيديهم المتوضئة من تنفيذ هذه المهمة، أن ترفع الغشاوة عن أعينهم وأعيننا حتى لا يدخلوا في خصومة خاسرة مع الله ورسوله. اللهم هبنا جميعاً الإيمان والقوة، واغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، واملأ قلوبنا بنورك الذي لا يخبو".(2)

كان الدكتور الشهيد ذا همة عالية، متفانياً في إيصَال الفكرة التي يريد، لا يعرف الكلل أو الملل. فما أن انتقل إلى الدراسة في جامعة الزقازيق حتى بدأ بتوضيح أفكاره سعياً إلى اعتبار قضية فلسطين الهمّ الأول لكل عربي ومسلم، بل وعمل على ربط الإسلام بفلسطين حينما قال بكل جرأة "لأننا مأمورون بخدمة الإسلام ولأن الإسلام يعيش التحدي المركزي في فلسطين؛ نقول احملوا الإسلام العظيم ودوروا مع فلسطين حيث تدور".(3)

وبذلك صارت غرفته في الزقازيق ولاحقاً بيته في غزة قِبلةً للباحثين عن الحقيقة وورشة عملٍ تعمل بجدٍ واجتهاد على صياغة الفكر الذي يجمع بين الإسلام والوعي والثورة في قلوب وعقول الشباب الطليعي المسلم في وقتٍ تضاربت فيه الأفكار واختلطت.

وتقول زوجته واصفةً جهده العظيم في نشر بذور هذا الفكر في عقول الشباب: "خرج الدكتور من مصر عائداً إلى فلسطين لنشر بذور الثورة الإسلامية فيها، فبدأ بتأطير الحركة الطلابية فيها باعتبارها طليعة الفكر الثوري الإسلامي الواعي؛ فخرج إلى قطاع غزة والقدس والضفة الغربية، وجابَ فلسطين من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، جاب الشوارع ودخل البيوت والجامعات. عملَ ليل نهار لتحقيق هدفٍ واحد وهو تكوين الطليعة الإسلامية التي تحمل الفكر الثوري، ومنها أسس طليعة الجهاد الإسلامي في فلسطين. وأخذ دوره الرياديّ في العمل حتى دخل المعتقلات والسجون الصهيونية".(4)

لقد كان الدكتور الشهيد في حياته نُموذجاً حياً للإنسان الذي حمل في داخله إرثاً عظيماً من المسؤولية تعجز الجبال عن حمله، إنه إرث الاحتلال الجاثم على أرض فلسطين، وإرث بعض الإسلاميين البعيدين عن الواقع، وإرثُ الفصل بين حبّ الوطن والإسلام.

لقد عاش الشقاقي حاملاً همّ الإسلام وهمّ الأمة وهمّ فلسطين السليبة حتى قال في وصف حبّه وعشقه لفلسطين: "إنّ أرض فلسطين بالنسبة لي فرض صلاة لا أساوم عليها تحت أي ظرف من الظروف ... وسيبقى مستقبل فلسطين معلقاً بسيوفنا، وسيستمر التطاحن من حولها ليكون قدَر المنطقة، وسنستمر في حمل شهدائنا في قلوبنا وعيوننا وعلى أكتافنا، نمضي بهم لندقّ بوابات هذا العصر حتى يُفتح لنا هذا التاريخ من جديد من بوابة فلسطين التي لا تضيع ولن تضيع لأنها آية من آيات الكتاب ولا تبديل لآيات الله وكلماته".(5)

لقد كان الشقاقي بحقّ باعثاً للعزة والكرامة في واقعٍ مليء بالذل والمهانة، وزمنٍ أثخِنَت فيه الأمّة بالجراح وكان الاستسلام والخضوع سِمَتَهُ السائدة. نَهض الشقاقي والناس نيام، وصرخ والناس بُكم، وتحدّى والناس في انكسار، وقاوم والناس في استسلام، وسُجن والناس في أمان، واستُشهِدَ والناس تموت ميتة الاستسلام، فكان جديراً بالاحترام قادراً على إعادة صياغة الإنسان الذي يستحق العيش بحرية وعزة وكرامة.

المصادر:

(1) : رفعت السيد، 1997، م1- ص15

(2) : مجلة الطليعة الإسلامية، العدد 9، السنة الأولى، سبتمبر1983

(3) : مجلة المجاهد – عدد 8، أكتوبر- 1989م

(4) : مقابلة لموقع "في رحاب الولاية" مع زوجة الدكتور فتحي الشقاقي

(5) : من كلمة للدكتور فتحي الشقاقي ألقيت في غزة بتاريخ 11- نوفمبر- 1994