شبكة قدس الإخبارية

عظام رابعة العدوية

زياد خدّاش
زرت القدس أكثر من مرة ــ متسللاً طبعاً ــ من وراء الجبال ومن تحت الجسور، بعيداً عن أعين مغتصبيها. لم يكن لمعظم زياراتي سبب سوى الحنين إلى مدينة تسكنني حدّ الجنون والضياع. ليست المسألة مســــــألة ذكريات شخصية بالطبع، فصحيح أني عشت فيها ألذ أيام حياتي... فالـــيد الناعمة الأولى التي أمسكتها في حياتي كانت هناك بجانب مقبرة، والشهقة العاطفية الأولى كانت هناك بجانب كنيسة، هل يجوز الحديث عن أشواق الجسد ومغامراته؟.في مضمار الانشغال بأحزان المدينة الوطنية والثقافية!! بالتأكيد سيشعر البعض بالحنق والاستياء؛ لأني لم أوفر الفضفضات الحسية حتى في مقال رصين يتحدث عن الثقافة والعروبة والوجع الاحتلالي؛ في نظري الأحزان والمباهج الجسدية لا تنفصل عن المباهج والأحزان الثقافية والوطنـــية؛ لأنها تشكل معاً كتلةً وجوديــــةً متماسكةً وحيةً ودالةً، توصل إلى حقيقة الحياة في أسطع تنوعها واختلاطها وحيويتها. القدس ليست التجارب العاطفية الشخصية فحسب، إنها أكبر من ذلـــــك بكثير، إنها تاريخ أمة وعنوان كرامتها، وجغرافيا انتصارات ونكسات ومنعطفات تاريخية هائلة وأرض لنهضة ومشعل للأديان وطريق لمستقــــــبل ضبابي لم ينقشع يوماً ما، القدس هي تاريخـــــنا المرتبك ومفتــــــاحنا الذي أضعناه، إنها بوابة هزات بلادنــــــا التاريخية والثقافية، بدايات نهضتنا ووطــــــن رموزنا التنويريين أمثال خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي ونخلة زريق وعادل جبر وأكرم زعيتر وغيرهم. ثمة سؤال يحيرني من سنين، لماذا لا يمد العرب ــ مؤسسات وأفراداً وأنظمةً ــ أيديهم لمساعدة القدس ثقافياً، لنقل إننا يئسنا من دعمهم السياسي لأسباب كثيرة، ولكن ما الذي يمنع إنقاذهم الحياةَ الثقافية المقدسية التي تعاني الشلل والإحباط والاختناق، أدعو من هذه الزاوية إخوتي المثقفين العرب إلى وقفة جادة مع عطش القدس الثقافي، ولا أقصد بالوقفة الجادة المقالات والقصائد، بل التحرك بشكل عملي بالتعاون مع شرفاء الثقافة الفلسطينية؛ للحفاظ ثقافياً على وجه المدينة التي بدأت تفقد ملامحها العروبية. القدس ليست لنا فقط، إنها ملككم، أيضاً، أيها العرب، إن بلاطات القدس القديمة لن تنسى وقع خطوات الجميل والرائع العراقي معروف الرصافي وهو يمضي بطيئاً وشامخاً باتجاه مقهى الصعاليك في باب الخليل، وإن أزقة القدس وقاعاتها وجمعياتها القديمـــة لن تنسى مثقفـــــها وأستاذها الكبير اللبنــــــــاني نخلة زريق، أعيدوا إلى القدس لســـــــانها المقطوع، وجلد وجهها المســــــروق، لا نريد صلاح الدين السياسي، أو الديني، فنحن نعرف أنه لن يعود، فهو محض وهم، أو مرض، محض أمنية، نريد صلاح الدين المثقف الذي يقتحم القدس بالنهضات الثقافية والحراك الفكري، يفجر فيها ينابيع الفكر التي جففها الزمان اللئيم. الثقــــــافة هي حصننا الأخير، جبهتنا المتبقية، إذا انهارت فسنفقد خيطنا المتين الأخير الذي يدل على عمقنا، ويشير إلى ملامحنا، ويثبت هويتنا ووجودنا ويوصل إلى الآتي من أيامنا، إن وجود الغزاة في خاصرتنا وحول عيوننا وفي منابت شعر رؤوسنا، لا يثير الفزع ما دام دمنا ووعينا وقلبنا محصنين بفكاهة الجاحظ ووجــــــودية أبي حيان وحكمة أبي العلاء، وتسامح وتمرد ابن رشد. فليبق هؤلاء الغزاة هنا، يحفرون في جسدنا رماحهم كل يوم، فمصيرهم ذات يوم إلى هاوية، لكن انهيار الثقافة وموتها، لا يبقي لنا ذريعة للبقاء كشعب يبحث عن ذاته المبعثرة في أصقاع المؤامرات والخيانات.إن المدينة التي تضم عظام رابعة العدوية شبه ميتة ثقافياً، إنها تحتضر.