أمجد ياغي: يمكن للفلسطينيين في غزة أن يتأقلموا مع مرارة الاحتلال ويبتكروا ما يستطيعون لمواجهة الظروف الصعبة، لكن حينما يجتمع الحصار والمرض وصراع الحكومات على جسد الإنسان لا يبقى للأمل مكان في حياتهم. أكثر من ذلك، فمرضى السرطان على وجه الخصوص يعيشون بين ألمين: ألم المضاعفات المرضية، والمعوقات التي تمنع سفرهم لتلقي العلاج. لديهم الآن حكومتان: الأولى في رام الله، وهي تمول علاجهم ومسؤولة عن التنسيقات الخارجية لسفرهم، والثانية في غزة، وتشرف بإمكاناتها الضعيفة على متابعتهم. لا بديل لهم عن العلاج في الخارج، فالقطاع المحاصر لم يستقبل أي دواء متطور لهذا "المرض الخبيث"
آخر ما قدمته السلطة الفلسطينية إلى مرضى السرطان في غزة هو تقليص الميزانية المخصصة لعلاجهم، وفق مصدر من جمعية بسمة أمل لرعاية مرضى السرطان في غزة الذي أكّد لـ«الأخبار» أن «المسؤول عن هذه الخطوة كان وكيل الوزارة في رام الله الذي تولى أعمالها خلفاً للوزير بعد سفره، وهذا بعدما بحثت الجمعية في أسباب تقليص أعداد المقبلين للعلاج من مرضى السرطان في الخارج، وإيصال الرسالة لنا بهذا الشكل».
وعلل الوكيل المذكور خطوته بأن تقليص ميزانية علاج مرضى القطاع «إنجاز للتخفيف من الأزمة المالية للوزارة وتخفيف عبء وزارة الصحة من تحمل مصاريف مرضى السرطان في غزة»، لكنها كانت كارثة على مصابي السرطان في غزة.
بالتزامن مع ذلك، يعاني المرضى في غزة نقص الأدوية اللازمة لعلاجهم. حتى في الأيام العادية، هناك 45 من أنواع علاج السرطان غير متوافرة في القطاع فضلاً على النقص الحاد في المخزون الذي تعلنه وزارة الصحة في غزة بين فينة وأخرى. آية عبد الرحمن، شابة تبلغ من العمر 26 سنة، أصيبت بالسرطان نتيجة تناولها هرمونات بهدف الإنجاب تحت إشراف طبيب تسبب لها -خطأ- في خسارة حياتها الزوجية والاجتماعية. تقول لـ «الأخبار»: «معاناتي بدأت عندما أعطاني الطبيب المشرف هرمونات سبّبت لي سبعة أورام داخلية لكن الطبيب لم يعترف بالخطأ، ومنذ ذلك اليوم أصبحت من قائمة مرضى السرطان في غزة».
45 من أنواع علاج السرطان غير متوافرة في القطاع
تعبّر عبد الرحمن عن انزعاجها الكبير مما لاقته من وزارة الصحة التابعة لحكومة حماس أثناء توجهها لطلب تحويلة. هناك قالت إدارة التحويلات إنها في حالة جيدة بناء على مظهرها الخارجي، لذا ليس لها الأولوية في الحصول على تحويلة.
وتعلق على ردّها: «أعلم أن حالات كثيرة لا تأخذ تحويلات لأنها تعاني مرضاً صعباً ولا أمل كبيراً في الشفاء منه لكنني أحتاج ثلاث جولات علاجية كل مدة، ولا أخرج حالياً إلا في واحدة منها»، مشيرة إلى اقتراب موعد العلاج المحدد لها في المستشفيات الإسرائيلية في حين يرفض المسؤولون في غزة منحها التحولية اللازمة.
13 ألف مريض
في محاولة لتفسير هذا الوضع، يرى أحد المعنيين في إدارة الموارد البشرية لمؤسسة بسمة أمل لرعاية مرضى السرطان في غزة، الدكتور محمد حمدان، أن النظرة المجتمعية في غزة إلى المريض تؤثر على طبيعة التعامل معه.
ويشرح حمدان أن مريض السرطان يكلف الدولة والمجتمع مبلغاً كبيراً من دون أمل في الشفاء، «لذلك لا توافر له جميع الأدوية عموماً لكن ما يعقد المشكلة أن حكومة غزة ترى أن على نظيرتها في رام الله تحمل تكاليف علاج مصابي هذا المرض». يشار إلى أن موقف وزارة الصحة في غزة الذي عبرت عنه مصادر داخلها هو أن وزارة رام الله هي المسؤول الأول عن التحويلات المرضية لمرضى السرطان أو غيرهم في حين أن الأولى لا يمكنها التدخل في أي تحويلة، «إلى جانب أن هناك رفضاً يجري من الجانب الإسرائيلي بحق بعض الحالات المرضيّة». وحول انتشار مرض السرطان في القطاع، قالت الوزارة في غزة إنه لا يزال «ضمن المعدلات العالمية التي ترصدها المنظمات الصحية الدولية». أما بالنسبة إلى الأرقام، فقد أكد مدير وحدة نظم المعلومات الصحيةفي الوزارة رضوان بارود أن نسبة المصابين بالسرطان في محافظات قطاع غزة بلغت 81.7 حالة مرضية لكل 100 ألف مواطن.
من جهته يقول حمدان لـ «الأخبار»: «الصحة في غزة لم تجر أي إحصائية لعدد مرضى السرطان في القطاع لأنه ليس لديها الخبرة في إجراء هذه الإحصائية. لكن مؤسسة بسمة أمل وضعت تقديراً نسبياً يشير إلى أن عددهم ما بين 12500 مريض إلى 13000، وتعدّ نسبتهم كبيرة وتزداد مع الوقت من دون أيّ أفق للحل». الواقع الصادم الذي يذكره الطبيب أن الأطباء المتخصصين في أمراض السرطان في غزة لا يتجاوز عددهم أكثر من أربعة، «كذلك لا توجد شبكة لحماية الأطباء من تصرفات بعض الأهالي رغم علمهم بصعوبة علاج أبنائهم، فيفضل الطبيب أن يحول المريض مع ضغوط أهله إلى المستشفيات الإسرائيلية كي يموت هناك بدلاً من غزة».
ويرى أن هذا التصرف بات وسيلة حماية للطبيب ووزارة الصحة أيضاً، «بل تصل الأمور في بعض الأحيان إلى تحويل المريض الذي تكون حالته ميؤوساً منها في اللحظات الأخيرة، في حين أن الأوْلى تحويل الذين يكونون في بداية المرض ويحتاجون رعاية خاصة».
لا تكفي وساطة واحدة
لم تكن المريضة عبد الرحمن الوحيدة التي تعاني نتيجة رفض إعطائها تحويلة العلاج، فخليل أحمد (اسم مستعار) والد لطفل يبلغ من العمر 5 سنوات مصاب هو الآخر بالسرطان، ويرفض الإفصاح عن اسمه الحقيقي لأنه كما يقول يحتاج الحكومتين حتى يعالج ولده.
قصة هذا الرجل بدأت عندما أصيب ابنه بالسرطان في المخ وكان آنذاك كتلة سرطانية متوسطة سببت له آلاماً شديدة. اضطر الوالد إلى التوجه لتقديم «طلب نموذج واحد» هو النموذج الأساسي في التحويلات. لم يكن يعلم أن هذا النموذج يحتاج وساطة كي يتمه، وظن أنه بحاجة إلى وساطة واحدة في غزة، ولكنه تفاجأ بضرورة وجود وساطة ثانية في وزارة رام الله كي تعجل له قبول التحويلة وتنفيذها.
ويقول أحمد لـ «الأخبار»: «بعد إنجاز الوساطة الأولى والثانية خرج ابني للعلاج مرة واحدة على أمل أن يعود مرة أخرى»، مضيفاً: «كنت محظوظاً بعض الشيء لأن كثيرين يعلقون بين وزارتي غزة ورام الله لإمضاء ورقة للنموذج. وجود الوساطة في الجهتين أنقذ ابني من مصير مرضى كثيرين أراهم يحتضرون أمامي في انتظار التحويلات».
أكثر ما آذى الرجل تعليق تلقاه من طبيب في مستشفى تخصصي للأطفال قال له إن محاولاته لعلاج ابنه عبثية بناء على أن مصير مريض السرطان هو الموت، ويختتم قصته: «فضلاً عن أنه لا توجد مؤسسة صحية مناسبة لعلاج مرضى السرطان في غزة كذلك لا نرى معاملة لائقة مع هؤلاء المرضى. ما أزال أركض بين مختبر وآخر وكل تشخيص يختلف عن سابقه. أشعر أن ولدي مات وهو لا يزال بين يدي».
صحة رام الله: كنا نتمنى ألا تتدخل حماس
قال الناطق الإعلامي لوزارة الصحة في حكومة رام الله عمر النصر إنهم لا يمارسون التمييز بحق مرضى السرطان في غزة، لكنه علل تقصيرهم في توفير السفر لهم بأن العلاج اللازم لا يكون متوافراً في الخارج من الأساس «فلا طائل من سفرهم». وأضاف في حديث لـ «الأخبار» أن وزارته «كانت تتمنى ألا تتدخل حماس في شؤون الصحة في غزة».
واستطرد النصر: «حماس تدخلت وأبعدت بعض المديرين وغيرت مناصب آخرين رغم أن هناك دوائر حساسة تتطلب بقاء أصحاب الخبرة. هذا عرقل العلاج في مجالات طبية كثيرة».
مع ذلك أشار إلى أن دائرة التحويلات ظلت تحت إدارة رام الله «كي لا تغطي حكومة غزة الفواتير العلاجية للمرضى»، لافتاً إلى أن التحويلات الخارجية تكلف صحة رام الله 180 مليون دولار سنوياً، «في حين أن غزة وحدها يخرج منها قرابة 80 مريضاً كل يوم».
صحيفة الأخبار