جاء في فن الحرب لـ "صن تزو"، أن التحصّن ضدّ الهزيمة يستلزم إتباع التكتيكات الدفاعية، وأما القدرة على هزيمة العدو فتعني انتهاز الفرص، ومن لا يستطيع قهر عدّوه عليه اتخاذ الوضع الدفاعي، ولكن الحرب الدفاعية تخون صاحبها بسبب التعزيزات المطلوبة.
ومن خلال هذه الخلاصات التي نصّ عليها تزو، فإن الناظر لمجريات الأمور داخل قطاع غزة بمعزل عن المتغيّرات الإقليمية والدولية (لوهلة)، سيلحظ مدى وحجم التغيّر في منظومة المقاومة على مدار عقود، التي تراوحت ما بين المقاومة كمقاومة لعمليات تجريف البشر والحجر، للفكرة وللفعل، للمُثل والقيم التحررية وحاضنتها الاجتماعية، وما بين الفعل التحرري المبادر في إطار المشروع التحرري المنبثق منها والذي يتطلب العمل على الاستنزاف الدائم للعدو، لكن هذا التراوح آخذ بالتصلّب نحو حالة الدفاع في السنوات الأخيرة.
ففي عرض عسكري سابق للجهاد الإسلامي على سبيل المثال، ظهرت بندقية شتاير النمساوية المستنسخة إيرانيا، بندقية قنص يتجاوز مداها الواحد كلم، استخدمت مؤخرا بحسب التقديرات الاستخبارية الصهيونية في عملية قنص العامل على السياج الحدودي، مما حدا بالجيش إقامة "منطقة عازلة" ("داخل إسرائيل" وفقا للمصدر موقع ديبكا الصهيوني) بنفس العمق ومحذرا العمال والمزارعين الابتعاد، وذلك في معادلة جديدة فرضتها المقاومة في غزة.
سبق ذلك تشكيل معادلات ردع بفعل استخدام الصواريخ المصنّعة والمطوّرة محليا إلى جانب المهرّبة إلى القطاع، ومن هناك لم يعد قرار الحرب قرارا صهيونيا منفردا، ولم تعد بعدها عمليات الاستنزاف النفسية والمعنوية والمادية حكرا على طرف دون الآخر في حال اختارت "إسرائيل" المغامرة ظنّا منها أنها صاحبة اليد العليا، تجاوزا لنقاش مقوّمات البنية التحتية للمقاومة في مقابل مقوّمات البنية التحتية للاستعمار الصهيوني.
فالحديث لا يتعلّق بما يطلق عليه اصطلاحا "اختلال موازين القوى" في الأدبيات السياسية والعسكرية وحتى تلك التي تتعلق بالحروب غير النظامية واللامتكافئة، ففي الإطار العام لهذه الأدبيات استبطان منهجي-معرفي لصالح نموذج المؤسسة العسكرية الحديثة من حيث سبل المقارنة ومراكز القوة وطبيعتها لتُقاس من خلالها نماذج "الشبكات التنظيمية العسكرية" حتى لو اتخذت نمط الحروب الهجينة، فكيف يمكن قياس القوة والتكافؤ إذا ما كان المعطى من قيمتين مختلفتين تجمعهما موضوعة الحرب؟
ولكن في ظل التمترس الصهيوني المستمر خلف التكنولوجيا العسكرية واعتماده المتزايد عليها في تحقق لمقولة "التكنولوجيا طوطم الإنسان الحداثي"، وفي مجمله -التمترس- غير صالح بغض النظر عن محاولات إعادة هيكلة بنية المؤسسة العسكرية الصهيونية بوحداته القتالية، والاتجاه نحو الوحدات العسكرية الصغيرة ل "المهمات الخاطفة" في استعارة جزئية للمفهوم والممارسة من سلاح الجو والاعتماد على مجريات الأحداث الإقليمية والتسويات السياسية الدولية لتدعيم الوضع الراهن، والتي ثبت زيف ادعائها –محاولات اعادة الهيكلة- بالمدى الزمني التجريبي ما بين حرب الجنوب 2006 وحرب غزة الأخيرة نظرا لما تعانيه المؤسسة العسكرية الصهيونية من خلل بنيوي، في ظل هذا كلّه يطرح السؤال:
هل وصلت المقاومة إلى مرحلة انتقلت فيها من التمترس الدفاعي كتكتيك يخدم أهدافا مرحلية إلى اعتباره استراتيجيا (حتى وان لم يكن بشكل مباشر)؟ هذا التساؤل لا يدخل في إطار كلاشيهات سلطة رام الله المستمرة والمعهودة ضمن مشروعها السياسي من التشكيك في المقاومة بل وفي أسباب وجودها، فالظروف الموضوعية لها ضرورتها، والمرحلية التي أعادت المقاومة تعريفها وموضعتها في سياقها الصحيح لها ثقلها الواقعي.
بل نابع من ذلك النقاش الذي خطّه اثنان من المنظرين العسكريين الصينيين في كتابهم "الحرب المفتوحة/غير المقيدة" حول دور تطور الأسلحة في تشكيل أنماط الحروب من جانب، وجدلية "خض الحرب التي تناسب أسلحتك" و"قم ببناء أسلحتك التي تناسب الحرب" من جانب آخر. فهذا الطرح يلقي بظلاله على مآلات ما كان يعتبر تكتيكا فأصبح استراتيجيا بحكم السلاح، في ذات الوقت الذي تفرض فيه الجغرافيا منطقها الصارم.
ومن هناك تتفتح الأسئلة عن موقع باقي قطع الجغرافيا الفلسطينية من الصراع ودورها، حتى لا نستمر بالتعويل على نموذج (وانتظاره) لم يعد بالإمكان أن يقدّم أكثر ممّا قدّم سابقا (الانتفاضة الثانية)، ولا نحمّل غزة ما لا تقدر على حمله منفردة برغم عظمتها.