حيثما وليت وجهك تطاردك عيونهم وجلودهم الملتصقة بالعظم، ففي عصر الانفتاح يتكوّم العالم كلّه في شاشتك، وتحفل المواقع والصفحات بمشاهد الجثث وصور القتلى (قبل وبعد)، وبعضها يتبارى في انتخاب أفظع صورة للعام، وأكثر مشاهد الموتى تأثيراً وإدراراً للدموع.. ذبحاً أو سحلاً أو تعذيباً في السجون!
وفي مأساة مخيّم اليرموك ليس مهما أن تتكهن بهوية الجوعى؛ فلسطينيين كانوا أم سوريين، لتقرر القدر المطلوب من الحزن والتذكّر والاهتمام، ولا حاجة للتعصّب لهويتك الوطنية وأنت تطالب كغيرك بنصرة المظلومين وإنجاد المحاصَرين وإغاثة الجوعى، فبقدر ما فيك من حسّ إنساني سويّ ستفهم أبعاد المأساة وسيشغلك جوع الضحايا، للحرية والهواء والماء والطعام.
المهم أن هناك من يموت موتاً بطيئا بسبب الجوع، وأن هناك مدى إضافياً لتهتّك جدار آخر من الأخلاق، الأخلاق التي ندر أن تحضر في جبهات القتال واعتبارات الحروب، أو الحسابات الدولية المنافقة، لأن من أجبر النظام السوري على تسليم سلاحه الكيماوي، قادر على إلزامه بفك الحصار عن الجائعين لو شاء، ما دامت السلطة نقطة ضعف هذا النظام الأزلية!
لا يجوع قاطنو اليرموك بسبب الفقر، لأن الفقر في هذا الزمن ما عاد يقتل أحداً أو يحرمه قوت يومه ولو بما يقيم صلبه، إنما يجوّعون بفعل الحصار، حصار (الممانعين) وأشياعهم من المرتزقة المحسوبين على فلسطين، والمجعجعين باسمها حتى وهم يغلقون المنافذ على المدنيين، فلا يسمحون بدخول قوتهم، ولا يُتيحون لهم الخلاص من الجحيم والنزوح عن المخيّم!
يصفع اليرموك بدوره وجه الممانعة الكاذبة، كما صفعته من قبل جميع الحواضر السورية.. يفتك بآخر أوراق المتاجرة بفلسطين، كما فتك الجوع بأمعاء أهله، وكما كشفت حجارة المدن المهدّمة حقيقة مدمني الدم والتسلّط. لكنّ اليرموك يقول للفلسطيني شيئاً إضافيا، وهو أنك إن ارتضيتَ أن تأخذ مصروف جيبك من الأغراب مقابل تأجيرهم بندقيتك فلن تشفع لك فلسطينيتك ولا شعاراتك المنتفخة، وأنك إن فتّشتَ عن طريق للقدس من بين جماجم الأبرياء فستذوب بين لعنات عظامها، ويتلاشى تاريخك كلّه، وأنك إن ظننتَ أنك جدير بالحريّة دون أشقائك فستظلّ راسفاً في أغلال العبودية.
الفلسطيني اللاجئ إلى سوريا ذاق ما ذاقه السوري اللاجئ في وطنه والرازح تحت حكم تلك العصابة، والغربة تفتك اليوم بالفلسطيني كما السوري، والظلام يحاصر أحياءً سورية كما يحاصر تلك البقع التي انتشرت فيها مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين، ومثلما نزح الفلسطيني من بلاده الأصلية قبل عقود، فقد نزح السوري كذلك قبل أعوام من مدنه وقراه، وتشتّت نفر غير قليل من بنيه في بلاد عدّة، أي أن وحدة الجرح والهمّ والمصير لا تحتمل التفرقة الشعورية ولا المطالبات غير الواقعية بإغاثة الفلسطيني دون السوري، مثلما أنها لن تَحتمل مزيداً من تحامق مأجوري النظام المدّعين وصلاً بفلسطين ومشروع تحريرها، وإن كانت معركتهم لأجل البقاء تُحتّم عليه التجنّد في معارك من يموّلهم، فليفعلوا هذا دونما استحضار قضية فلسطين وحشرها في فوهات بنادقهم الآثمة، لأن نجمة صهيون لن تكون في مدى رصاصهم بعد الآن.. وما كل شيء يمكن ترميمه بالأكاذيب، أو الروايات المضللة.