إجابة على سؤال معلق منذ استشهاد ناجي العلي: لماذا اغتالوا السنجاب الضاحك؟
ليس معروفاً عدد الأيام التي ظل فيها تمثال الشهيد ناجي العلي قائماً عند مدخل مخيم عين الحلوة الشمالي، ولكن المؤكد أن هذا التمثال الذي نحته الفنان شربل فارس من مادة الفيبرجلاس المبطنة بالحديد، لم يقف طويلا، إذ انقضت عليه عصابة فلسطينية مسلحة وفجرته وأطلقت النار على عينه اليسرى، ثم سحبته وجرته إلى مكان مجهول بين الأحراش، تماما كما حدث لصاحبه الشهيد قبل ذلك ببضعة أشهر، ظهر يوم 22/7/1987 وهو في طريقه إلى مكاتب صحيفة القبس في شارع ديفزاللندني حين انقض عليه قاتل مدرب جيدا وأطلق عليه الرصاص من مسافة قريبة وفر هارباً.
من أطلق الرصاص على الشهيد الحي ظل مجهولا، وكذلك ظلت مجهولة تلك العصابة التي أطلقت الرصاص على تمثاله وأسقطته عن قاعدته، ولكن المؤكد مرة أخرى، أن هذين الحدثين المتلازمين حملا دلالتين بالغتي الأهمية على من أطلق الرصاص مرتين، وعلى أي إنسان أُطلق الرصاص.
الدلالة الأولى هي أن من يقف وراء القاتل جهة شيطانية الملامح ظل الشهيد ناجي العلي يعمل بفنه على تحرير الفلسطيني من خوفه منها، وحوّلها إلى عصابة حمقاء يمكن مقاومتها والسيطرة عليها. وبدل أن يظل الفلسطيني خائفا مهاناً أمام ألاعيبها، سيكون قادراً على قلب الموقف والشعور بأنه هو السيد، لا هذه الحثالة التي تحكمت بمصيره طيلة سنوات وسنوات، وستقوده حتما إلى هاوية الاستسلام لعدوه، وستقايض وطنه بحفنة دولارات.
الدلالة الثانية هي أن الإنسان الذي أُطلق عليه الرصاص مرتين، هو فلسطيني ضاحك علم الناس فلسفة الضحك والسخرية من أولئك الذين اعتبروا أنفسهم مالكي "الحقيقة" الوحيدة والمدافعين عنها، فلسطيني رفع فن السخرية بكاريكاتيراته إلى مستوى لم يكن مألوفاً حتى ظهوره؛ إلى تعرية الدجل والزيف في سياسات وخطابات أبقار مقدسة فُرضت على الساحة الفلسطينية. فلسطيني يحرر الأواخر من قيودهم ويجعلهم الأوائل.
ما أُطلق عليه الرصاص في الحقيقة هو فن الضحك وفلسفته التي تحول حتى الشيطان إلى مجرد مهرج أحمق في سيرك، وتجرده من كل أقنعته، وتسحبه عاريا من عليائه إلى الأرض، زاحفا مثل حيوان منقرض بلا أطراف، بعيون بلهاء، يثير ضحك الناس كلهم، فلا يعودون خائفين حين يقول لهم الفنان الضاحك وهو يجرجره في الأسواق أن ما تصوروه صاحب سطوة ليس سوى فقمة خرقاء متكرشة تلغو بكلمات زائفة خالية من أي حقيقة مفترضة.
* * *
يمكن أن يضيء هاتين الدلالتين، دلالتي إطلاق الرصاص على الضاحك والضاحكين وأسبابها العميقة، ذلك السرد الروائي للإيطالي آمبرتو إيكو في روايته "اسم الوردة".
في هذه الرواية يحرص الأعمى "خورخي البورغيسي" العجوز، من بين كل كتب الكوميديا التي تفلسف الضحك، على إخفاء النسخة الوحيدة من كتاب أرسطو "الكوميديا" في غرفة سرية من غرف أكبر مكتبة دير عرفتها العصور الوسطى الأوروبية، بل وشرّبَ صفحات الكتاب بالسم حتى يموت كل من يحاول تصفحه. وهذا هو ما يحدث عدة مرات من دون أن يعرف أحد سرّ موت عدد من رهبان الدير الذين يختفون ويظهرون موتى تلوثت أصابعهم وألسنتهم بمادة سوداء. إلى أن يصل عالم انكليزي من تلاميذ روجر بيكون إلى السرّ، بفضل ما تزود به من علوم وفلسفات انتقلت إلى أوروبا القروسطية عن طريق علماء مسلمين وعرب من أمثال ابن رشد وابن سينا، ويواجه "خورخي" العجوز المسيطر على المكتبة والديرمن أعماق ظلمته. فيسأله:" لماذ تخفي كتاب الكوميديا بالذات، رغم أن هناك كتباً أخرى مماثلة؟" وهنا يجيب العجوز الأعمى:" لأن كاتبه فيلسوف، وما أن ظهرت شروح كتابه حتى تحول "السر المقدس" إلى أضحوكة مكونة من تصنيفات ومقايسات منطقية، وما أن اكتشف كتابه في الطبيعيات حتى شاع تصور للكون مأخوذ بتعابير المادة المعتمة، وساهمت شروح العربي ابن رشد في اقناع الكثرة الكاثرة من الناس بخلود العالم".
كتاب أرسطو ممنوع بالذات لأنه حول الكوميديا إلى فن، وأصبحت موضوعاً للفلسفة ولاهوتاً خطراً. إنه كتاب يعلّم أن هناك حكمة في تحرير الإنسان من خوفه، ذلك الخوف الذي يقوم عليه عماد تحويل البسطاء إلى بطون وأمعاء، لا إلى كائنات مفكرة. وفي تلك اللحظة لايعود حتى الموت مهماً حين يستهدف الكتابُ تدمير الموت بالخلاص من الخوف، ويعلّم البسطاء واجب تبديد"جدية" و"تجهم الخصم" بالمضحك والساخر.
* * *
كان ناجي العلي ضاحكا بهذا المعنى الذي رمى إليه الأعمى البورغيسي. كان فناناً، وهو الأخطر، وكان كتابا يجب أن يُمنع الإقتراب منه. ولكن توفر وسائط انتشار رسومه الكاريكاتورية حال دون كل محاولات إخفائها وطمسها. وساهم وضوحها وساهمت لغتها وتورياتها القريبة من الأفهام في نزع أقنعة "الممثلين" لأدوار الثوريين، ورسمتهم في الأذهان تماما كما هم، مجرد مسوخ ودجالين يقفون حراساً دون البحث والمساءلة في ما يفعلون وفي صدق ما يقولون.
مسوخ من خطباء وشعراء حاولت تجنب كل ما يلفت الإنتباه إلى مادية أبطالها، لأن مجرد الإلتفات إلى الجسم المادي، كما يقول الفيلسوف هنري بيرجسون في كتابه عن دلالة المضحك، يعني تسرب شيء من الهزل والسخرية. ولهذا كان أبطال المسرحية التي أخرجت ومثلت أمام الفلسطينيين، لايشربون ولا يأكلون ولا يشعرون بالبرد، لايتاجرون ويسمسرون ويلهثون وراء أرصدتهم في المصارف، كانوا "ملائكة" بلا شرطة ولا قتلة. وجاء السنجاب الضاحك ليقبض عليهم ويلفت الانتباه إلى جانبهم المادي، هم مروجو اللغو بالثورة والتضحية في الوقت الذي يغرقون فيه في مباذلهم وصفقاتهم.
حين يُجرد "الممثلون" من الخلفية الموسيقية، وحين يُجردون من شقشقاتهم، تبدو حركاتهم مضحكة. وحين يجلسون أو يزحفون وهم يلقون خطبهم النارية وقصائدهم الكونية، تتحول المأساة التي يحاولون تمثيلها إلى ملهاة.
هذه بعض تقانات فن الكاريكاتير التي أجادها ناجي العلي وليس كلها، فأزال السحر الذي تلفع به "الكهنة"، والجدية التي ظهرت بها أكثر من بقرة مقدسة، وحولهم مع أبقارهم إلى كائنات بلهاء، ثم التفت إلى الفلسطينيين البسطاء المخدوعين ليقول لهم:" هاهم على حقيقتهم.. ليس لهم من الصفات البشرية سوى هذه البطون الزاحفة وراء منافعها، وليست "حقائقهم" سوى أكاذيب ملفقة، وإن مآلهم الأخير، أو مآل سعيهم، ليس سوى الركوع تحت قدمي أعدائكم الصهاينة".
بهذا المعنى كان الضاحك رائياً، نافذ النظرة ذا بصيرة، أي قارئاً ومفلسفاً بالمعنى الذي فهمه ذلك الشيطان البورغيسي الأعمى القابع في عتمته، والمستبد بكتب المعرفة والنور والعلوم، أو الإرهابي الذي لم يكن يملك أمام المعرفة سوى أداة القتل. قتل السنجاب الضاحك، وقتل كل ما يشير إلى وجوده حتى.
في رواية "اسم الوردة"، تنتهي المواجهة بين الشيطان البورغيسي في ظلمة المكتبة وبين تلميذ روجر بيكون المتنور، بأن يسارع البورغيسي إلى تمزيق صفحات كتاب الكوميديا المسمومة وإبتلاعها، ليمنع الناس من الضحك والتحرر من أساطيره التي يحتضنها حتى الموت.
وخلال المعركة التي تنشب لتخليص الكتاب من بين يديه، يُسقط المصباح الذي يحمله المتنور، وتنتشر شراراتٌ منه تحدث حريقا هائلا يقضي على المكتبة ومباني الدير. فيقول "إيكو":" الان وقد تم تدمير أضخم مكتبة معارف عرفتها البشرية سينفرد بنا الشيطان".
ما حدث في المواجهة بين المسوخ وبين السنجاب الضاحك الذي ألقى الأضواء على ملامحهم القردية، كان شبيها بهذا، فما أن انتهوا من اغتياله حتى سارعوا إلى محاولة طمس معنى فنه، بل وتحطيم تمثاله الشامخ على مدخل مخيم عين الحلوة، ولكن هيهات. لقد تعلم الفلسطيني فن الضحك والسخرية وما عاد أحد قادراً على خداعه، وأصيب الشيطان بالعجز والعقم وفقدان الذاكرة وتحول إلى جرذ لم يعد دفنه سوى مسألة وقت. وهو ماسيحدث بالفعل ولو بعد زمن.