شبكة قدس الإخبارية

رسالة إلى وزير الصحة في غزة

عاصم النبيه

معالي وزير الصحة، كتبت رسالتي هذه لأجل الله ثم لأجل المصلحة العامة ثم لأجلك أنت.. وأشهد الله أني أحبك.

أما بعد،

جُرحت أختي (نسمة 5 سنوات) في جبينها فأخذتها (برفقة أمي) إلى مستشفى الشفاء بمدينة غزة، وصلنا والدماء تملؤ وجه الصغيرة، دخلنا غرفة الاستقبال ولكن لم يتحرك أي طبيب لفحص الفتاة، بحثت عن أي طبيب، بعد دقائق وجدت أحدهم، أول كلمة قالها بعدما رآني (وقد رأي أختي بالطبع): روح هات تذكرة! تركت الصغيرة مع أمي وذهبت لإحضار التذكرة، عدت فوجدت أختي على حالها والطبيب لم يكلف نفسه لفحصها، قلت له: هاي التذكرة فقال: استنى هنا!

ربع ساعة ونحن ننتظر، المهم بعدما فحصها وانتهى الأمر، طلبت من الطبيب أن يقوم بتغريز الجرح بنوع خيوط خاص، خاصة أنها فتاة صغيرة وأن الجرح في وسط جبينها فقال: ما في خيوط خاصة، روح اشتري من خارج المستشفى (سألت حالي وقتها: طيب ليش التأمين ما دام بدنا نشتري كل شي من برا؟)

المهم: عدت بعد ثلث ساعة ومعي الخيوط المطلوبة، وكانت الدماء ما زالت على وجه أختي، بقينا ننتظر لمدة ساعة حتى دخلنا غرفة الغيار وقام الطبيب حديث السن بخياطة الجرح بكل برود دون حتى أن يبتسم في وجه الفتاة التي بدت خائفة جدا.. كان رجلا آليا بتعامل مع شيء ما لا يعتبر من البشر!!

مرّ عام على تلك الحادثة، ومساء (الخميس 15 أغسطس 2013) دخلت المستشفى برفقة أخي (محمد 17 عاما) الذي أصيب بحادث دراجة هوائية. كانت الجروح تملؤ كل أنحاء جسمه، وجهه غارق بالدماء حتى فمه كانت ممتلئة بها، كانت أول كلمة قالها الطبيب بعدما رآه: روح هات تذكرة!

تركته وحيدا وذهبت مسرعا لإحضار التذكرة، ولما عدت صُعقت عندما وجدته واقفا في نفس المكان ولم يأت إليه أي طبيب.. قلت للطبيب الواقف قرب المكتب: يا دكتور شوف الشب؟ فرد بكل برد: وين التذكرة؟أعطيته إياها فرماها على المكتب وكانت هناك فتاة مع زوجها (يبدو أنه يعرفها) أعطاها استشارة لم تكن طارئة أبداً. كررت طلبي بعد عشر دقائق: يا دكتور شوف الشب؟ فرد بضجر: طيب استنى!! بعد دقائق قال بملل: شو مالو؟ أخبرته القصة بسرعة فنظر إليه وقال: طيب سليمة!! وبس..

أخذ ورقة الاستقبال وظل يبحث عن قلم لمدة 3 دقائق (تخيل دكتور ما معو قلم؟) وجعل يكتب الحالة ويصف الدواء المناسب (طبعا الذي يجب أن نشتريه من خارج المشفى) ثم طلب مني أن أذهب إلى غرفة الغيار. نظرت إلى أخي وحدقت في فمه فلاحظت أن النزيف ما زال مستمرا، طلبت من الطبيب أن يفحص فمه لأنه من الواضح أنه تلقى ضربه فيه، قال متضايقا: هات نشوف! بعد دقيقة طلب مني أن أذهب به إلى غرفة تصوير الأشعة لتصوير فكه!

ذهبت إلى الغرفة الوحيدة بالمشفى، بقينا ننتظر.. باب الغرفة يفتح ويغلق.. وبعد ربع ساعة دخلنا الغرفة ليستقبلنا الطبيب المختص بتكشيرة وصوت عالي: شو مالكم؟ انت معو؟

المهم، أخذت صورة الأشعة وأقسم أن الطبيب "العام" ظل يحدق بها لأكثر من خمس دقائق حيث أنها كانت غير واضحة أبدا، بعدها قال لي الطبيب: تعال راجع العيادة الخارجية يوم الأحد (يعني بعد 3 أيام) في قسم الفك.. تخيل يا معالي الوزير؟ كان سنه مخلوعا تقريبا؟ ولا يوجد طبيب للفك أو الأسنان؟ وتم تأجيل الفحص لـ 3 أيام..

المهم، سأتخطى التفاصيل لأصل إلى غرفة الغيار، الوحيدة، الصغيرة التي يقف أمامها طابور من الجرحى الذين أتوا ينتظرون موعدهم، على باب الغرفة وجدت هذه اللوحة:

se7a

انتظرت دوري ولكنه لم يأت، بعد ثلث ساعة قررت الاتصال بالرقم، فكان الجواب: "الرقم الذي تحاول الاتصال به مغلق حاليا" أغلقت هاتفي المحمول وحدقت بالحاضرين فوجدت هذه الطفلة (لاحظ جرحها؟)

sd

كانت تنتظر اكثر من ساعة، نظرت بجانبها فوجدت هذا الطفل مع والده ينتظر دوره ليخيط جرحه (قال أنه ينتظر منذ ساعة أيضا). على بعد أمتار منه كانت امرأة كبيرة مع طفلها تنتظر الدور أيضا، بالمناسبة، لا يوجد كراسي كافية ليجلس عليها المرضى ومرافقوهم، وعلى الكراسي كانت تجلس هذه الفتاة تنتظر دورها لدخول غرفة الخلاص!

teel

teel1

sad

بغض النظر عما يحدث في الغرفة، وبينما كنا ننتظر دورنا في الدخول، أتى طبيب ومعه حالة لا تبدو خطيرة ولا تقارن بحالة أخي الذي اختار أن ينام على احدى الأسرّة بدمائه التي تجلطت فوقه جلده.. دخل الطبيب غرفة الغيار متخطيا كل الحالات السابقة، وعندما صرخت به: أن "هناك دور" قال: حالة وبدي أفحصها، فقلت: هناك عشرات الحالات يجب عليك فحصها هنا وهي أخطر منه! فرد بـ "شتيمة"، ولما اجتمع الناس والشرطة علينا أخذ مريضه وذهب به بعيدا وقبل أن يتفرق الناس خرج أحد الأطباء الكبار من غرفة الغيار، قال: مالكم؟ شو فيه؟ قلت: الواسطة يا دكتور؟ فقال: عادي! شو المشكلة! هيك الدنيا.. لو انت بتبيع خضرة في السوق واجا صاحبك بتعطي الأحسن وبتبيعو قبل كل الناس!

طبعا بغض النظر عن تبريره، لكن ما رأيك بالتشبيه بين المستشفى والسوق؟ بين المرضى والزبائن في محلات بيع الخضار؟

بقينا ننتظر لمدة ساعة وعشرين دقيقة، لما دخلنا غرفة الغيار الضيقة جدا وجدنا فيها سريرين ووثلاثة أطباء وعدد كبير من المصابين ومرافقيهم.. الأطباء لا يقولون سوى كلمة: اسكت، اصبر، لا تبكي! طبعا بدون أي بسمة أو حتى أي لغة جسدية أخرى!!

dad

خرجتُ من الغرفة وأنا أفكر ببعض الأشياء كما لو أنني وزير الصحة:

مبدئيا: سأبدأ بتقييم كل الأطباء في كل المستشفيات والمراكز الصحية وأتأكد من أهليتهم ليكونوا أطباء.. ربما سأقوم باختبار القدرة على الابتسام.. وسأقرر زيادة عدد الأطباء المناوبين في كل فترة. ولا تقل لي لا يوجد لدينا أطباء، فنحن بحاجة إلى أطباء عامين فقط غير متخصصين.. كما سأقرر بناء ثلاث غرف أخرى للغيار وغرفة ثانية على الأقل لتصوير الأشعة ولا مانع من جعل الغرف واسعة ولو قليلا!

وسأوظف عددا لا بأس به للمراقبة الميدانية لحظة بلحظة ولن أكتفي بمدير إداري لا نراه أبدا.. وسأقوم بتحويل مكتبي الرئيسي إلى مستشفى الشفاء وسأجعل لي مكتبا في كل مستشفى بكل محافظة وسيكون دوامي كل يوم بأحد هذه المكاتب.. وأخيرا: سأعيّن موظفين دائمين للرد على الرقم الخاص بالشكاوي والبلاغات (يعني مش كويس أحط لوحة ولما يرنوا الناس يلاقوا الرقم مغلق)

معالي الوزير، أعلم أن الأوضاع الصعبة وأن الحصار خانق وأن الهجمة شرسة ولكن لا يمكن أن نبرر كل شيء بهذه الأوضاع.. ولا تنس أنك قد وافقت أن تكون وزيرا للصحة.

شكرا لك.