يوميات أسير سابق (2)
سنة أولى سجن
في ذات اليوم الذي انتهى به ألم البوسطة وعذابها عندما مكثنا ليلتنا في "معبار" الرملة سيء الصيت والسمعة، وصحونا منذ ساعات الفجر الأولى وكالمعتاد تقوم إدارة سجن الرملة بإخراج جميع الأسرى من غرفهم وتجميعهم داخل الأقفاص مرةً أخرى، وتعود رحلة البوسطة من جديد دون المرور بجميع السجون، فهي تمر من معبار الرملة متجهة صوب سجن عوفر المركزي.
بعد رحلة العذابات هذه وصلت أخيراً إلى سجن عوفر ظهراً، وتم إدخالنا إلى السجن بعد الإجراءات المذلة وعلى رأسها طبعاً التفتيش العاري، من ثم فرزنا الإحتلال إلى أقسام كلاً حسب انتمائه السياسي. الفقرة الثانية سلمنا فيها كيساً صغيراً فيه بالعدد بشكير واحد، و5 أكياس شامبو صغيرة الحجم، وشفرات حلاقة".
تحركنا وبصحبتنا عدد من السجانين الذين أوصلونا إلى داخل القسم، اعترتني فرحة لا متناهية لحظة وصولي إلى باب القسم، وفرحت أكثر بالإستقبال الملوكي الذي أعده الأخوة مرددين "الحمد لله على سلامتك، ومتسائلين .. تحقيق ولا سجن" أي أنك منقول من سجن إلى آخر. فكان الجواب إني يا قوم قادم لكم من مركز تحقيق الجلمة بعد شهرٍ تحقيقي عنيف، وبعد انتهاء الفقرات الترحابية أعطاني الأسرى بعضاً من الحاجيات لاستخدامها واصطحبوني ناحية "الكانتينة" واشتروا لي حاجيات أخرى.. وأنا كطفلٍ صغير مستمتع جدا باستكشاف عالم الأسرى الذي عشت أسانده دون أن أعيشه.
إلى المحلقة
هناك في المكان الذي خصصه الأسرى للحلاقة ، رأيت صورتي للمرة الأولى، وهالني ما رأيت، للمرة الأولى منذ شهر يتاح لي أن "أخفف شعري" وأحلق ذقني التي طالت إلى ما طالت، وبعد الانتهاء من كل هذه الأمور دخلت غرفتي، وبدأ استقبالٌ آخر، وأسئلة لا تنتهِ بعد أن عرفوا أني آتٍ من زنازين الجلمة التي تفتقد إلى أدنى متطلبات الحياة.
صلاة العشاء الأولى/ جماعة
بعد أن رُفع أذان العشاء داخل القسم، صلينا عشرتنا خلف الإمام، كان لها طعم آخر وكأني أصلي للمرة الأولى، كان بودي لو صلينا جماعية مع القسم أجمع، إلا أن قوانين المحتل، تجبر الاسرى على الصلاة في غرفهم بعد انتهاء الفورة فيغلق القسم على من فيهم، والغرف على من فيها.. بعد الصلاة بدأت طقوس الأسرى، وبدأت جلسة التعارف، وفيها بعض الأمور التي يعشقها الأسير وأهمها "فراش الطاولة" الذي يضم اللب وبعض العصائر والمتاحة داخل السجون.
لقد كنت الأسير سنفور
الأسرى يعيشون خلف القضبان لكن روحهم حية، حية أكثر منا نحن الأحرار. في الليلة الأولى في عوفر، وبعد الإنتهاء من جلسة التعارف بدأت مقارعة السنافر، والسنفور الجديد هو أنا أول طلب كان إحضار الكماشة من صندوق الأكل، وكأنها متوافرة؟! بحث كثيراً عنها بالمناسب إلا أن اصوات ضحكهم وتهامسهم هي ما دفعني للعودة لمكاني.
لم أتعلم … ! وفي صباح اليوم التالي أرسلني أحد الأسرى إلى الكنتينة لأشتري "كبدة دجاج" فوصلت إلى الكنتينة وطلبت بصوت عالي من العامل كبدة دجاج وأعاد العامل السؤال: "ماذا تريد؟" كررت طلبي أريد كبدة دجاج.. وأعتلت اصوات الضحك داخل الكنتينة، ورد العامل ضاحكاً: "عُد من حيث أتيت وأخبر من أرسلك أننا لم نذبح الدجاج اليوم.. وعندما عدت للغرفة استقبلني من فيها بالضحك والإبتسامات.. عرفت أني السنفور الجديد وهذا أسلوب الترحيب بكل أسير قادم من بعيد.
دوري في "الخَنشرة "
من ألقاب الجامعة خنشور وتعطى لمن مضى عليه عامان على الأقل في الجامعة، وقد تحولتُ لخنشور أسير بعد شهرين لا أكثر، وبعد أن ذهبت الأيام وأتت أيام، نال أحد الأسرى في غرفتنا الحرية، وأتانا "سنفور أسير" وجاءت لحظتي الحاسمة للخنشرة ومداعبته.. وأُعيد شريط الاستقبال وكل ما يحدث مع أي أسير جديد، ولكن كانت المرة الأولى التي أشارك بها هذه اللحظات الفكاهية، وبعد الانتهاء من جلسة التعارف بدأت لحظتنا المنتظرة، وتوجهت إليه بسؤال "إنت إيش ناوي تشتغل داخل السجن وبأيش بتحب تساعد إخوانك الأسرى إحنا هون كلنا بنساعد بعض" قال: "شو في هون". قلت له: "في نجار حداد مزارع"، قال: "مو مشكلة أنا بشتغل كل شي"، أخبرته أن هناك أسير كان يعمل في مجال تجميع البيض من مزرعة الدجاج وتحرر اليوم ما رأيك في هذا المجال للعمل به؟ قال أنا موافق.
طلبت منه أن يلبس ملابس الشباص وأن يخرج في الصباح الباكر عند الساعة 7 صباحا ويقف في ساحة الفورة وهناك سيكون تجميع الأسرى العمال ليخرجوا إلى عملهم، وفي الصباح الباكر جهز نفسه وخرج إلى ساحة الفورة، بينما خرجت أنا لأمارس الرياضة الصباحية كأي يوم في داخل الأسر، وعندما خرجت معه وذهب في اتجاه تجمع الأسرى الخارجين في هذا الوقت إلى البوسطات والمحاكم وتم إخراجهم، فتوجه "محمد" سائلاً الشاويش:" أنا ما طلع إسمي ، فرد الشاويش: انت شو اسمك؟ وإلى أين تذهب" قال إسمي محمد... وأنا متوجه لمزرعة الدجاج لجمع البيض " … كان جميع من في الساحة يراقب محمد وفي لحظتها علت الضحكات في ساحة الفورة وأخبره الشاويش اذهب لمن ضَحك عليك وقل له "إنت فضحتني بين الأسرى"... في الأسر لا مكان للزعل حتى هذه المواقف الساخرة ما هي إلا لحظات فكاهية للتخفيف من المعاناة ومشاركة الضحك والدمع.