في السابع من نيسان القادم لهذا العام، سَتُعقد جلسة محكمة للشاب الفلسطيني محمود الطيطي، كانت قد تأجلت بسبب عدم حضور المُستشار القانوني للأمن الوقائي كشاهد عليه في "جريمة حُب الوَطن".
ستبدأ الجَلسة صَباحَا، وَقد يأتي أو يغيب المُستشار ما دامَ العباد في نظرِهِ عبيد، سوف يتنحنح القاضي ويبدأ بفتح المَلفات التي تَعفن فيها الحَق، يَنظر مِن أسفل نظارتِه، الجَميع موجود، الحُضور، مُحامي الدفاع، المُدعي، لكن المُدَعى عَليه غائب!.
يَغضب!
يأمر الشاويش بالنِداء عَليه!
يلتَفت الحضور ويتبادَر إلى ذهنهم أن إسما مشابها عَلِق بذاكرتهم منذ أيام يشبه هذا الإسم.
لا يتجرأ أحدهم على طرح تخميناتِه.
يصيح الشاويش: سَيدي القاضي، المُدعَى عَليه "شهيد".
يُغلَق المَلف ويبدأ القاضي بالتحضير لمُحاكمة أخرى يغيب عنها المُستشار القانوني لجهاز الأمن الوقائي والكثير الكثير من الإنسانية.
محمود، فور سماعي لنبأ إستشهادك جراء مواجهات مع الإحتلال الصهيوني في مُخيم الفوار بالخليل خطر ببالي أن أقولُ لكَ شيئا ما، فتحتُ حسابكَ على الفيس بوك، كنتَ مِن ضمن قائمة الأصدقاء عندي فأنتَ من المُهتمين بقضية الأسرى، فتشتُ صفحتَكَ بِدقة رغم أنني لَستُ ممن ينبشون الذكرى وهي رَطبة ولا أجيد العَبث بمحتويات الشهداء، بكلماتهم ووصاياهم المُغلفة بضحكات بينهم وبين أصدقاءهم الذين ظلوا على قَيد الإعتقال أو الشهادة، لكنني رغبتُ أن أكتبَ لغيابِك، وعندما وقعت عينايَ على خبر كنتَ قد كتبتهُ عن جلسة محكمتك التي تأجلت منذ عام 2010 أحببت أن أنحني للغياب وللموت فهو الوحيد القادر على مخالفة جلسات محاكم أجهزة أمن السلطة.
خطر ببالي أن أقول للسلطة التي أودت بوطنِكَ الذي كُنتَ تعشقه:" مَن تَدعونَ عَليه وتعاقبونه على إنتماءه للوطن أصبح شهيدا يا أجهزتنا الأمنية، فلتخجلوا، وتذكروا رسالة محمود درويش إلى قاتل "لو تأملت وجه الضحية، وفكرت، كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز، كنت تحررت من حكمة البندقية، وغيّرت رأيك: ما هكذا تستعاد الهوية".
عِندما اعتقل الإحتلال خامس صديق مُقرب لَك رامي طلال نِمر قلتَ مُعاتبا:" يا أصدقائي تركتموني وحيدا"، والآن تترك أنتَ أصدقائك وحيدين حتى الثمالة والعتمة تلف أجسادهم.
العِتمَة أيضا يا محمود تقف عائقا أمام الفلسطيني عن الوصولِ إلى جُثمان شهيد وتفعل تماما فِعل المسافات.
قُل لي الآن!! مَن يَطوي عَن أصدقائكَ عذابَ المَسافة!
محمود، بقيتَ تحوم حول الموت وتغريه بقوس قزح وبالجبال التي ستشرب روحك فيما بعد حتى آخر نَفس فيك، فمُنذ أقل مِن 22 ساعة تَمنيتَ لو يدخل الرئيس الأمريكي أوباما إلى باحات الأقصى لعل وعسى تشتعل إنتفاضة ثالثة، ألا تدري يا محمود أن السنابل في وطني جفت وتنتظر شتاءا آخرا كي تنبت مليون سنبلة ومليون إنتفاضة، فنحن شعب ما أن نقول كَرمَ الله وجه الشهيد حتى يأتي لنا ألف وليد.
إن لم تكن أنتَ شعلة إنتفاضتنا فَلِمَ علينا إنتظار الغرباء كي يستأنفوا حربا هي شأننا وحدنا!
إن نَسيتَكَ المُدن المُحتَلة سأرددُ عليها ما صرَختُ به يوما ما في وجه مدينتي النائمة وبإحتقار يا محمود سأقول لها:" مساء الخجل يا مدينة تنسى شهداءها، تمر عن الموت، تقرأ تفاصيله ثم تذهب بمن فيها للتسوق".
كأننا نكتُب أقدارنا دون أن نُدرك بأن أيدي خفية للقدر ترفع كلماتنا لأبواب السماء المفتوحة، ربما مِن أجل ذلك أتجنب الكتابة أحيانا.
كتبتَ يوما كلمات تغري فيها الموت وتدعوا الشهادة على مائدة أمنياتك، وها أنت الآن "شهيد"، وكتبتَ أيضا كلمات أخرى تشبُهك، فيها عنوانك، ملامحك، همومك وهويتك، وها هي تصبح الآن بطاقة تعريف لكَ:" عنواني المخيّم .. وكفني الكوفيّة،كلُّ الجبالِ تثاقلتْ مِنْ حمْلَ القضيّة، وأنا الوحيد هاهنا ما زلتُ أحملُ بندقيّة، وسلاحيَ المسروقُ مقلاعٌ وأوجاعٌ .. وهويّة !!
يا شهيد هذا المَساء، إن التحديق بالشمس أرحم بكثير من أن تشخص بنظرك نحو الغياب، ويبدو أن الغياب صار وجهة الفلسطيني الخامسة.
نَم مُطمئنا، فعنوانُكَ أصبح الآن ثابتا، نحنُ فقط الأشقياء بعدك وكُل جزء مِنا في محطة إنتظار لمصير وطن بأكمله.