شبكة قدس الإخبارية

رسائل لا تصل (9): هنا نابلس

رحمة حجة
لأجل كل الرسائل الذاهبة مع الريح.. وتعويضًا عن كل التأويلات الموجعة لعدم تلقي أيّ رد، كانت ”رسائل لا تصل“، موئلًا أسبوعيًا للباحثين عن مسافة البوح بين خطوات من الخوف والتردد. كانت رائحة الجبن البلدي تسيطر على هواء المدينة، الذي تنفسه آلافُ المارقين في شوارعها، وعجت الساحات بهواة التصوير الفوتوغرافي، وآخرين بتذوق حُلوها الذي أكسبها شهرة إقليمية. وكنتَ على مقربة من تلك الحشود، تستجمعني بذاكرتك وعينيك، وأنا لا أراك.. حتى همست باسمي مناديًا!

ككل مرة، سرقنا الوقت من القدر معًا، وسرقتُهُ منك بحذر، كي تلاحظ أو لا تلاحظ انفعالي الطفولي جراء لقائك، فلا فرق! لكنني أردت وقتها ألا يعنيني هذا كله؛ إنها لحظات استثنائية لن تتكرر مع شخص يشبهك على الأقل، لكنها ربما تتكرر مع شخص يحمل صفات منطقية تجعله إنسانًا وسط أشباح الحاضر.

وبما أن شيئًا في أعماقي يدرك أنك تحملُ بعض الجمال، قررتُ ألّا يضيع مني في هذا اليوم، لنتفق على جولة، بالأحرى على عمر تم تأجيله، وماض لذاكرة مقبلة سأحن له وحدي.. أيضًا لا بأس.. ما زلتُ سعيدة، فالسيرُ بمحاذاتك كافٍ، وزاد الله عليه أن يكون حديثك لي.. لي وحدي، أنا في نعمة كبيرة يا عبد الجليل!

حين وجدتكَ في بداية ذلك العمر، قلتَ لي بهدوء المتماسك بعد غضب "يا خُزيمة.. إن اثنين يبحثان عن بعضهما لن يجد أيّ منهما الآخر" تنبيهًا لي بأن عليّ البقاء في مكان حددتُه لشخص يبحث عني، ولا أفتعلَ الدوارَ كي أسبقه، وحيث أنك لم تقلها بقصدية عاشق، فهمتها أنا بمكر امرأة تنتظرُك، وخرجتُ بنتيجة مفادها أن "على أحد الطرفين البحث عن الآخر كي يلتقيا"؛ لذلك فضلتُ أن أكون هذا الآخر!

وها أنا أستعيدُ معك لحظات دهشتي الأولى بك، حين ناقشتَ أستاذ الجغرافيا بطريقة لافتة، تدل على ثقافة عميقة، لم ألحظها على أحد قبلك، ما شدني لملاحقة الصوت والذهاب بعينيّ إلى مكان جلوسك.. واليوم، في حضرة التاريخ، تصحبني بذات الدهشة إلى سلالم ودكاكين ومساجد في نابلس القديمة، دون أدنى محاولة مني لمقاومة هذا السحر.

تحدثني عن ارتباطك بتاريخ تلك الأمكنة، وصداقتك مع حجارة بيوتها العتيقة، ونوافذها المدلاة بعناية، دون أن تفتح ستائرها للغرباء، أو يتبخر من خلالها صوت امرأة يدلل على حياة أصحابها، فوحدها النباتات النضرة، والمياه المتدفقة من أنابيب الصرف الصحي، تعطينا إشارات بأن حياةً تتنفس داخل الجدران!

ليست البيوت وحدها تعرفك، وتلقي عليك التحية، فالشهداء المزروعة صورهم في كلّ حارة، يخبرونك عن أيام الحصار وعن بنادقهم التي ما انتكست إلا حين غادروها في رحلتهم الأخيرة نحو الله، وها أنت تخبرني، بعينين كما يحتويهما الأسى، يحتويان الثقة.

تحيطُ بقلبكَ كل زاوية ورصاصة وصوت مدفعية، وتشيحُ بسمعك عن أجواء الأعراس في المدينة، ليخترق صمتي أذنيك، فوحده القادر على حثـكَ متابعة الكلام، ونسج التفاصيل التي أعنى بها كي أحفظها آجلا عن ظهر قلب، لا كي أقف في محطاتها وأدقق بمدى صوابها أو خطئها، فلست الآن في معرض حوار سياسي، إنما في مأزق تاريخي أحاول الخلاص منه بمتابعة يديك وصوتك الذي يتأثر بحركتهما حين توضحان مغزى الأمور.

- أظنني أثقلت عليك هذا النهار بتلك الجولة....

- لا تهتمي. تعودت على ذلك، ولا يفتأ أيّ من أصدقائي الاستنجاد بي حين زيارته البلد

أفكر.. لن يعنيني التشبيه بيني والآخرين، وبعاديّة الأمر لديك، حيث لن يختلف معي عن غيري، فكل هذه وساوس شيطان يريد أن "ينغصّ" علي، فأعوذ بالله منه، وأعود إليك، وحدك.

دمُكَ على المرفق.. آه من دمك! كيفَ جُرحت؟! وكيف ألملم وجعي أمام استهانتكَ بالأمر، وأساندكَ بمنديل ورقي يخفف عنك؟ أنتَ تبتسم، وتقول "عادي"، وأنا أتنهد وأقول لنفسي "المشهد صار هندي هههه".

يغيظني ذكرُكَ لاسم فتاة أخرى، ويفاجئني "دفاعك عن نفسك" بأنك لست على علاقة "وطيدة" بها، رغم أنني لم أسألك ولا يهمني التدخل في خصوصياتك، إذ يهجسني أنني "لست فاتنتك!" كما يغني كاظم الساهر و"حبيبتك يوما ستأتي كي تبادلك الوفاء، فلن أفرح أو أهلل أو أفكر أو أحلل" لما لن يحدث بيننا، تفاديًا لأعراض عشق جانبية، فأهم ما في الأمر أنني أدرك مكانتي وأدرك كذلك ضرورة أن أفرح وأنتشي بنكهة السعادة التي أضَفتها على يومي هذا.

والأعلى لا ينفي أنني في زمن ما.. أحببتك.. وتقصدت الهروب منك دومًا، منذ أول لقاء بيننا ذات صيف، وصدقني، ما زلت أمارس الهروب منك، لتجنب البكاء حين تغدو بعيدًا.. بعيدًا، فأنا لا أحتمل رحيلا جديدًا. لذا، سأؤمن بأنك ككل الأشياء الجميلة، تحافظ على خاصيتها بأن تبقى بعيدة، كوطن طالما تطلعت إليه، لكنه ما زال جميلًا و بعيدًا!