شبكة قدس الإخبارية

رمضان موسماً لإعادة إنتاج الإسلام المُلَبْرل (2)

أحمد أبازيد

بدأ أحمد الشقيري الموسم التاسع من برنامجه ذائع الصيت خواطر، الذي تتزايد شعبيّته و تأثيره مع كلّ موسم، كما تزداد ميزانيّته على ما يظهر.

ولئن قدّم الشقيري صورةً للمسلم و الدعوة أنيقةً و واسعة الأفق و متسقةً مع واقع العصر و مع الإسلام باعتباره مقصديّة مفتوحة لا شعائريّة مغلقة، و قدّم إمكاناً للفعل –و الأمل- الإسلاميّ أوسع أفقاً من قفص الطقوس و الدروس المشايخيّة ، فنجح كمقابل لجوّ الدعوة –الخليجيّ خاصّة – السائد القاتم المتقوقع على نفسه و المنفصل عن زمنه و مجتمعه ، و القائم على استثارة الغرائز الأولى و مخاطبتها ترهيباً او ترغيباً أو قمعاً بسلطة “لحوم العلماء مسمومة” ، هذا كلّه نسلّم به حتى لا يُفهم انتقاد الدعاة الجدد انتصاراً لواقع المؤسّسة الدينيّة المتآكل و المتهافت ، و حتى لا يؤخذ النقد كنقضٍ للشخص أو كـ “هجوم” كما تروج هذه الأمور عادةً بحكم الثنائيّات التي أضحت تحكم “عقل الفيسبوك” الذي يتعامل مع الأحداث السياسية و مع التيارات الفكرية و مع كلّ شيء في الحياة بمنطق مباراة كرة القدم ، فلا مكان لغير التشجيع أو التشنيع ، و الثالث المرفوع هنا هو العقلُ نفسه.

ولكن هذا أيضاً لا يلغي إمكان نقد هذه الظاهرة ، و يمكن وصفها بالظاهرة بحكم جمهورها و أثرها المتسع فلم تعد مجرّد حالةبرنامج.

و ليس التركيز على أحمد الشقيري بحكم اتساع جمهوره و حسب، وإنّما لأنّ هذا البرنامج كان الأقدر على تجسيد فكرته كاملةً، و الأوسع تغطيةً لمجالات تحقّقطموح رؤيته، التحقّق الغربي (الذي يتمظهر كذلك عبر الإسلام التاريخي) المقابل للطموح الإسلامي اليوم.

يأخذ الشقيري منتجات الحضارة الغربيّة بشقّها المادي متفرّقةً ومنتزعةً من سياقها وتاريخ صيرورتها وواقع الحضارة الذي أنتجها، لتكون مستفزّة للوعي الإسلاميّ ومنبّهةً له على قصوره الحضاري وضرورة “التحسين” ليكون مثلَهم.

يستدلّ على أمانة المجتمع في دولة أروبية بمتجرٍ مصغّر مشرع على الطريق دون بائع ويدفع الجميع ثمن الماء والشيبس، و على أن لا قفل على خزانة الصحف، و يُطلب منّا فوراً أن نقارن بأنفسنا، يهمل البرنامج أنّ هذه “الأمانة” لم تحصل إلّا بعد تراكم رأس المال والتواضع على أخلاق سوق مستمدّة من هذا التراكم، التراكم نفسه الذي لم يحصل ولم يستمرّ دون مسيرة طويلة من “اللاأمانة العامّة” المتمثّلة بسرقة شعوبٍ أخرى وفرض الهيمنة عليها لتحقيق الوفرة من جانب واحد، إنّها أمانة ثمن عبوة ماء الذي لا يعني شيئاً في دول تستحوذ على أنهارٍ من البشر الآخرين.

ويتكلّم عن الدقّة والضبط في مطار دبي، مستشهداً بذلك على الإحسان في العمل، و أنّ من الممكن لمدينة “عربيّة” أن تبلغ أفق الحضارة، هذه المدينة لم تكن غير دبي نموذج التحديث السنغافوري النيوليبرالي البحت، و غير القائم إلّا على مراكمة منجَزات التحديث وغسيل رؤوس المال الكبرى في العالم عبر ناطحات سحاب لا وظيفة لها إلّا صنع فقاعة من الحداثة الماليّة، حداثة المظهر وتقديم الرفاه لمن يدفعون ثمن المظهر، قامت على الآلاف من العمال الآسيويّين المسحوقين ، وعلى تضييع أبسط مقوّمات الهويّة مقابل النجاح النيوليبرالي المعولم …. والإسلامي.

ولعلّ من المفارقات أنّ المجتمع الأوروبي كلّه موضوع للاعتبار و النظر و تقديم المثل الحضاريّة فليس شرطاً أن يؤخذ المثال الحضاريّ من الدولة وحدها ، ، أمّا في الشقّ الآخر غير الأوروبي ، فالإنجاز الحضاريّ يتمثّل بالمشاريع الاقتصاديّة الشبابيّة ( في أحد حلقات الموسم الماضي كان الحثّ على القراءة عبر مسابقة من يصمّم مكتبة ناجحة في المول ) و بما تنجزه الدولة ، ذاك لأنّ صورة الغرب في هذا النموذج معقلنةٌ بالكامل مجتمعاً و قطاعاً خاصّاً و سلطة عامّة ، أمّا الشرق فلا تحضر العقلنة فيه إلّا عبر المركّبات فوق المجتمع سواءٌ كانت السلطة أو المشاريع التي تتحلّى بإدارة طموح.

يعلّق أحد الأصدقاء الأردنيين على حلقة مخيّمات اللاجئين السوريين في تركيا عبر تويتر في تعليق غاية في البساطة والعمق إنّ "كاميرا خواطر9 لم تصور البيت الذي في قرية الشجرة بالرمثا الذي استقبل لاجئين سوريين فوق طاقته ، فهو بلا تقنية أو إدارة راقية أو تفكر و إحسان ” إنّ مثال الإحسان للاجئين هو ما يتبدّى عبر معايير الإدارة و التقنية ذات المظهر الأنيق ، أمّا فعل الإحسان المجتمعي فغير مشمول في ذلك، لأنّ مجتمع الشرق ليس مثالاً للعقلنة كمجتمع الغرب، الذي لو استقبل أحدٌ لاجئاً في بيته في ضواحي باريس لكان مثالاً على الأخلاق المفتقدة لدينا.

لا تتمّ قراءة الحاضرة وحده عبر هذا النموذج الذي يعتبر غرب المادة المثال هو مرجعيّة إضفاء القيمة فيه، وإنّما قراءة التاريخ أيضاً تتمّ داخل المنطق نفسه، فلا يُستحضر من التاريخ الإسلامي إلّا منجزاته العلميّة الماديّة على الشرط الغربي في تعريف الحضارة والعلم.

مع التذكير بحجم الميزانيّة الهائل الذي يلزم برنامجاً يلفّ العالم ليصوّر الحفر في أمريكا و الصحف في السويد و حصة الرياضة في اليابان والعتبة الحديد لخيم اللاجئين في تركيا، إنّ منجز الثروة لا بدّ أن يتأثّر و يُحكم بمنطقها، حتى دون وعيه.

برنامج خواطر يحاول –بصدق- تقديم نموذج حضاريّ قدوة ، و كان له أثر في تقديم خطاب إسلاميّ قادر على تمثيل الشباب و تخليصهم من أسر الشكل البائس المتقوقع للفعل الإسلامي الرسمي المتمثّل بالشعائر والخطب الوعظيّة المكرّرة، ولكنّه قدّم منجزاً يستبطن في منطقه نفسه معيقات الفعل الحضاريّ المتسقلّ و الواعي بمشاكله و إمكاناته، إنّه الوعي المهزوم نفسه ولكن بصورة أكثر أناقةً و إتقاناً وحداثة، و هذا ما ننتقد فيه و في هذه الظواهر ، نقد ضمن مستوى التفكير فيها و مراجعتها، لا ضمن الهجوم و المحاكمة و البحث في النوايا.

وما دامت ظواهر ضمن الفضاء العامّ تؤثّر فيه و تتأثّر به، لا ظواهر معزولة خاصّة بأصحابها ، فمساءلتها واجبة والتفكير بها بدهيّ و الاختلاف معها كما الاتفاق من سنن الأمور، بعيداً عن التوثين المفضي إلى محض تكرار الكلام وراء الرموز، و بعيداً عن التخوين المفضي إلى محض تعطيل العقل لقطع الرؤوس.

الجزء الأول لهذا المقال: http://www.qudsn.ps/article/22549