في الفجر يتسلل إليها عاشقا عابدا. هي قبلته التي يولي وجهه إليها وستبقى.
يقترب من أنفاسها باشتياق المحرومين وآهات المصلوبة قلوبهم على أعمدة المنافي.
ما أطول دروب العشاق. ما أسعدهم وهم يقتربون من موعدهم. ما أشقى قلوبهم حين يغادرون. ما أتعس صباحاتهم الوحيدة. صباحات لبداية عمر من بكاء.
ماذا عساه أن يكتب؟
كيف لكلمات أن تصف قبلة الهواء الأولى على جسده حين وطأتها قدميه؟!
كيف يبوح بابتسامة عينيها الغارقتين بحزن معتق حين ردت سلاما عربيا؟
أي قلب يحتمل عناق يافا؟ آي ذاكرة يمكن أن تشفى من رائحتها؟
رائحتها تتسرب إلى جسده مع خطواته الأولى. مسجد البحر وبيوت حاولوا إخفاء ملامحها العربية تلوح في البعيد، تنام على وشوشات البحر الذي لم ينس. وتغريد النوارس وصوت الأذان يغسل روحها، وأجراس الكنائس تدق جدران الخزان منذ عشرات السنين.
في شوارعها غرباء من كل لون. يتلمس جدرانها بأطراف أصابعه، كما لو كانت آيات من قران يستنجد بها. يتساءل كيف أبدو غريبا بها؟ من أين جاء كل هؤلاء وهي لي؟ ربما هذا بيت "ابو حسن" أو "ابو محمد" تحول إلى خمارة تحتسي فيه فتاة روسية مشروبها وهي تداعب كلبها شبه عارية، وتلك عجوز تبيع تحفا يهودية في متجر منذ أيام كنعان.
جميل صوت الله فيها. في المسجد الكبير الذي تم ترميمه مؤخرا وتلتصق به عدد من "البارات"، يغتسل بمائها ويصلي كما لم يصلّ أحد، له ولغيره.
جميل صوت الله، كأن الزمن توقف، والبحر خر ساجدا على قدميه، لا أجمل من صوت الله في يافا، يغفو بحضرته كما لم يغف من قبل ويذهب بعيدا.
بحر يافا لا يقاوَم. هو جزء من جسدها وروحها. بعض من ذاكرتها وأسرارها، وفيه شي من شقاوتها، فكيف له أن يقاوم هذا؟ يلتحم به شيئا فشيئا، ويبوح له بما خبأه له من كلمات.
"بحرك يافا يا حلم عيون الصيادي"، بحرك يافا يا قبلة كل الذين ضرب الجفاف أرواحهم العطشى لك، الموجوعين بك، الذين يولدون منك ويموتون بك كل يوم.
يافا أي خطيئة ارتكبوها بحقك بعض الأوغاد! كيف لابن الأرض ان يتخلى عن أمه؟ كيف لمؤمن ان يتخلى عن قبلته؟ كيف لثائر ان يتخلى عن حبيبته؟ كيف رضينا ان تحتملي كل هذا القبح والدمامة والنجاسة وأنت جميلتنا.
يافا لا تعذرينا ولا تسامحينا، يافا لا تدعي قلبك يغفر لنا، إلعنينا لأننا تركناك، لا سامح الله من تخلى عنك وفرط بك. والله لو أدركنا من أنت لجلسنا أعمارا في الشوارع ننتحب على أنفسنا حتى ننفق كالكلاب.
يغسله البحر ويداعبه الموج. يستلقي متعبا بعد رحلة عشق. تزين حروف طفلته الرمال فيجمعه. تلثم الشمس جسده عشقا. يخبئ اسما آخرا في الرمال ويمضي في شوارعها.
قوس عربي الملامح يغمز له "سأبقى شامخا". أرض وجدرانها حجارة كنعانية، ما إن يلمسها حنينا حتى تهمس "على قلبك السلام". بيوت يملؤها الغرباء تمنحه ابتسامة "لا تخف لم أنس، ما زلت احمل ذكرياتهم"، وفي البعيد يجلس الشهداء عاليا فوق الأرض باسمين، يقول لنفسه حاسدا إياهم "ما أسعدهم أولئك الذين اختاروا أقصر الجسور إلى الله والوطن، ما أسعدهم بموتهم، ليست كل المدن جديرة بأن يعيش الإنسان بها، ليست كل المدن جديرة أن يموت ويدفن بها، وحدك يافا جديرة بكل شيء، ليتني قبر فيك".
*نشرت مسبقاً في "وطن للأنباء".