شبكة قدس الإخبارية

انتخابات مبكرة في "إسرائيل": نتنياهو بين تفكك الائتلاف والهروب من المحاسبة

نتنياهو
مصطفى إبراهيم

رغم تأكيده العلني المتكرر أن حكومته السابعة والثلاثين ستُكمل ولايتها حتى موعدها الرسمي في تشرين الأول/أكتوبر 2026، تشير المعطيات المتراكمة داخل مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى مسار مختلف تمامًا. فالتقارير التي بدأت تتسرب في الإعلام الإسرائيلي تكشف أن نتنياهو وجّه دائرته المقرّبة للاستعداد لاحتمال حلّ الكنيست والتوجه إلى انتخابات مبكرة، قد تُجرى في يونيو/حزيران المقبل، أي قبل الموعد المقرر بنحو أربعة أشهر.

هذا الاستعداد لا يعكس ثقة، بل قلقاً عميقاً. فحكومة اليمين الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل تقف اليوم على أرضية مهزوزة، تتآكل من الداخل بفعل أزمتين كبيرتين: قانون تجنيد الحريديم، وتمرير ميزانية الدولة. وهما ليسا مجرد خلافين تشريعيين، بل اختباران حاسمان لقدرة نتنياهو على إدارة ائتلاف قائم على الابتزاز المتبادل والتناقضات العميقة.

علنياً، يواصل نتنياهو بث رسائل طمأنة لشركائه، مؤكداً أن الميزانية ستمرّ وأن قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية للحريديم سيُقرّ. لكن في الكواليس، يعترف مقرّبون منه بأن الوضع قد ينفجر في أي لحظة. فالأحزاب الحريدية ترفع سقف مطالبها، فيما يتزايد التململ داخل الليكود نفسه، حيث يخشى نواب كثر من الثمن الشعبي لإعفاء جماعي من التجنيد في ظل حرب طويلة، واستنزاف غير مسبوق للجيش والمجتمع.

هذا التناقض بين الخطاب العلني والاستعداد العملي للانتخابات ليس جديداً على نتنياهو. فهو يدرك أن الاعتراف بقرب الانتخابات قد يُدخل حكومته في حالة شلل نهائي، ويقوّض ما تبقى من الانضباط الائتلافي. لذلك ينكر الواقع سياسياً، بينما يهيّئ حزبه تنظيمياً، عبر تشكيل طاقم حملة، والاستعداد لانتخابات تمهيدية داخل الليكود.

وفي هذا السياق، تبدو تحركات وزراء اليمين المتطرف كأنها حملة انتخابية مبكرة متنكرة بلباس حكومي. فبتسلئيل سموتريتش يدفع بإصلاحات اقتصادية شعبوية، فيما يصعّد إيتمار بن غفير خطابه التحريضي، واضعاً عقوبة الإعدام في صدارة أجندته، في استعراض فجّ يستهدف شدّ عصب قاعدته الانتخابية. هذه ليست إدارة دولة، بل سباق مواقع على أنقاض حكومة مأزومة.

لكن أزمة الائتلاف، على خطورتها، ليست التحدي الأكبر أمام نتنياهو. فاستعداده المحتمل للانتخابات مرتبط بحاجة أعمق وأكثر إلحاحاً: إغلاق ملفات داخلية ملتهبة قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، وعلى رأسها ملف الانقلاب القضائي وملف لجنة التحقيق في إخفاق الحرب.

فيما يتعلق بالانقلاب القضائي، يدرك نتنياهو أن إعادة فتح هذا المسار تشريعياً قد تعيد مئات آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع، وتُحيي حركة الاحتجاج التي هزّت حكمه قبل الحرب. لذلك يسعى إلى تجميده عملياً دون التراجع عنه رسمياً: لا إلغاؤه لإرضاء الشارع، ولا استكماله كي لا يشعل مواجهة داخلية جديدة في لحظة سياسية حساسة. إنه تأجيل محسوب، لا تراجع مبدئي.

أما ملف لجنة التحقيق في إخفاق السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فهو التهديد الوجودي الحقيقي لمسيرته السياسية. فمنذ اليوم التالي للحرب، اتخذ نتنياهو قراراً بمنع تشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة، مهنية، ذات صلاحيات حقيقية، قد تضعه في مركز المسؤولية عن أخطر فشل أمني سياسي في تاريخ إسرائيل. وبدلاً من ذلك، يعمل على إنتاج لجنة “مشوّهة”، تُغرق الحدث في بحر من المسؤوليات المتداخلة، تمتد من اتفاق أوسلو إلى الانسحاب من لبنان، مروراً بالاحتجاجات ضد الانقلاب القضائي.

الهدف ليس الحقيقة، بل التمييع. توزيع الذنب على الجميع كي لا يُدان أحد، وخلق ضجيج وصراعات جانبية تُفرغ التحقيق من مضمونه. كلما طال المسار وتعقّد، ضاعت المسؤولية السياسية المباشرة. وفي هذا السياق، يصبح الذهاب إلى الانتخابات وسيلة للهروب إلى الأمام: فالفوز المحتمل لا يمنحه فقط ولاية جديدة، بل يُستخدم كأداة لنزع الشرعية عن أي تحقيق لاحق، بذريعة أن “الشعب جدد الثقة”.

الإعلام العبري نفسه بدأ يلمّح إلى هذا الترابط. فإلى جانب تقارير صحافية اسرائيلية، أشارت تحليلات في هآرتس إلى أن الجمود حول قانون التجنيد والميزانية قد يتحول إلى نقطة كسر حقيقية. كما تحدثت القناتان 12 و13 عن أن خطاب “استكمال الولاية” بات أقرب إلى محاولة ضبط الإيقاع داخل الائتلاف منه إلى تقدير واقعي للمشهد السياسي. وحتى الصحف المحسوبة تقليدياً على نتنياهو لم تُخفِ القلق من سيناريو انفجار مبكر.

في موازاة ذلك، يدير نتنياهو معركة موازية ضد القضاء والإعلام. الهجوم المتواصل على المستشارة القضائية، والتحريض على المحكمة العليا، وقرار إغلاق إذاعة الجيش الإسرائيلي “غالي تساهل”، ليست أحداثًا منفصلة، بل أجزاء من استراتيجية واحدة تهدف إلى إخضاع ما تبقى من مؤسسات رقابية، وتوجيه رسالة واضحة: النقد سيُعاقَب، والمعارضة ستُدجَّن.

كما يواجه نتنياهو أزمة إعلامية وسياسية كبيرة، تمثلت في ما بات يُعرف بـ”فضيحة قطرغيت”. كشفت التسريبات عن دور دائرة رئيس الوزراء في تلميع صورة الحكومة عبر وسائل إعلامية ومؤسسات محسوبة عليها، ما أثار غضب المعارضة وأعاد النقاش حول استخدام المال العام والتأثير على الإعلام. واتهمت المعارضة نتنياهو مباشرة، فيما تورّط مستشارون مقربون منه في إدارة الحملة، وذهب بعض المنتقدين إلى حد اتهام الموساد بالمشاركة غير المباشرة في التغطية عليها.

هذه الفضيحة شكلت إحراجاً شديداً لنتنياهو، لكنها لم تُضعف عزمه، بل زادت من استعداده للتصعيد السياسي والسيطرة على المؤسسات الإعلامية والقضائية، لضمان التحكم بالرواية العامة قبل أي انتخابات محتملة، والحفاظ على شعبيته وسط هذه الأزمات.

وعلى الجبهة الخارجية، يواصل نتنياهو تصدير الأزمات: تهديدات لإيران، رسائل تصعيد لسوريا ولبنان، حرب مفتوحة على غزة ، ومحاولات لبناء حلف إقليمي في شرق المتوسط لمواجهة تركيا. كلها أدوات لصناعة صورة “القائد الضرورة” في زمن الأخطار الوجودية، ولإلهاء الشارع الإسرائيلي عن الأسئلة الحقيقية: من المسؤول؟ ومن سيحاسَب؟

في إسرائيل يتزايد الاقتناع بأن نتنياهو لا يستعد لانتخابات محتملة فقط، بل لمعركة بقاء شاملة، يخوضها على جبهات متوازية: الائتلاف، القضاء، الإعلام، وحتى الرواية التاريخية للسابع من تشرين الأول. السؤال لم يعد ما إذا كانت الانتخابات ستُقدَّم، بل أي مؤسسات ستُسحق في الطريق، وأي أثمان سيدفعها المجتمع الإسرائيلي، فيما تُعاد صياغة السياسة على وقع الخوف والإنكار.