في "سيدي تيمان"، ليس الليل للراحة، بل هو ساحة معركة صامتة بين لحم المعصم وصلابة الحديد. كنت أستجدي أربع ساعات من النوم على "فرشة" ترفض أن تحتضن تعبي، وبلا وسادة تسند رأساً أثقله الخوف. كانت #الأصفاد تعضُّ رسغي بشراسة، وكلما حاولتُ أن أميل بجسدي لتخفيف الضغط، غرس الحديد أنيابه في جلدي أكثر.
استيقظتُ في صباح رمضاني من مارس 2024، لأجد يدي اليمنى قد تحولت إلى قطعة غريبة من التورم؛ انتفخت حتى ابتلعت المعدن. طالبتُ بطبيب، فكان الرد يأتي بلهجة عبرية باردة تسخر من وجعي: "اشتيه مايم" (اشرب ماء).
هذه هي "الفلسفة الطبية" في معتقلات الاحتلال؛ الماء هو الترياق الكوني. إن كُسر ضلعك.. فاشرب ماء، وإن نهش السرطان أحشاءك.. فالماء دواؤك، وحتى إن اخترقت الرصاصة جسدك، عليك أن تقنع بقطرات الماء علاجاً وحيداً.
حين يعجز الحديد عن احتواء الألم
مرت الأيام والوجع يزحف نحو العظم. دخلت الأصفاد في اللحم الحي حتى كاد النصل المعدني يلامس النخاع. عندما صار الخطر يهدد ببتر الكف، تدخل "المجرمون" أخيراً. وضعوا بعض المراهم ولفوا الجرح بشاشٍ أبيض، لكنهم لم يفكوا القيد إلا لأن يدي تضخمت لدرجة لم يعد القفل معها قادراً على الإغلاق.
استبدلوا حديد اليدين بمرابط بلاستيكية، لكن الثمن كان باهظاً: "حديد في القدمين". في عرف "سيدي تيمان"، من يُكبل قدميه بالحديد يصبح "صيداً ثميناً"، هدفاً ثابتاً لفرق القمع التي لا تدخل إلا لتسيل الدماء. صرتُ أعيش بين فكي كماشة: ألم الجرح المتفتح، ورعب "القمعة" القادمة التي لا تترك وراءها سالماً.
ليلة "البركس" الف
الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً. الصمت يمزقه انفجار قنبلة صوت هزت أركان القسم (أ). وفجأة، تحول المكان إلى مسرح من الكوابيس؛ عشرات الجنود، صراخ هستيري، ونباح #كلاب بوليسية تنهش الهواء.
"الكل على بطنه! الرأس في الأرض! الأيدي فوق الرؤوس!"
رتبونا في أسطر، نجلس على الركب، صدورنا للأرض وأيدينا مرفوعة للسماء في وضعية صلاة مشوهة. كانت فرقة القمع تسحب المعتقلين ثلاثة بثلاثة نحو الجدار، لتنهال عليهم الهراوات. كنا نسمع تكسر العظام وصيحات الوجع، وننتظر دورنا بقلوب ترتجف.
خديعة الجسد.. وانتقام السجان
بينما كنتُ رافعاً يديّ، وقف خلفي كلب ضخم، أنفاسه الحارة تلامسني ، وعواؤه يصمُّ أذني. تقدم أحد الجنود، وبدا أن تورم يدي قد بدأ يخف قليلاً، مما جعل الأصفاد واسعة بشكل مفاجئ. وبحركة واحدة، انزلقت القيد من يدي.
ثارت ثائرتهم وكأنني ارتكبت جريمة كونية. صرخوا، تجمهروا، وسحلوني إلى منتصف "البركس". كان الكلب فوقي يراقب الفريسة، بينما أعادوا تكبيل يدي خلف ظهري بعنف ضاعف الجرح القديم. سحبوني إلى الجدار، وبدأ العرض الوحشي؛ تناوبوا على ركلي وضربي بـ "البوكسات" في الخصر، البطن، والصدر.
لم أعد أشعر بالضربات، شعرتُ فقط بالأرض تغيب من تحتي. سقطتُ مغشياً عليّ، بينما استمرت حفلة الدم حتى الثالثة فجراً، تاركةً خلفها أجساداً منهكة، وروحاً تسأل: أيّ ماءٍ هذا الذي سيغسل كل هذا الوجع؟
لماذا نكتب عن الجرح؟
إنني لا أكتب هذه الشهادات رغبةً في استعادة الألم، فما نسيته الأبدان لم تنسَه الأرواح، لكنني أكتب ليعلم العالم أجمع أن ما يواجهه #الأسرى منذ السابع من أكتوبر ليس مجرد احتجاز، بل هو محاولة ممنهجة لسحق الآدمية. أكتبُ ليرى الجميع عبر كلماتي تلك السلاسل التي أكلت لحمنا، ويسمعوا صدى صرخاتنا التي كانت تضيع في ردهات "سيدي تيمان" المظلمة.
إن حال الأسرى الآن يتجاوز حدود الوصف؛ فبينما يمر الوقت على العالم بالدقائق والساعات، يمر عليهم بالدقات المرتجفة والأنفاس المحبوسة خوفاً من "#قمعة" مفاجئة أو قيدٍ لا يرحم. إنهم يعيشون في عتمةٍ لا يكسرها إلا بصيص الأمل في عدالةٍ تأخرت كثيراً. نكتبُ لتبقى هذه الحكايات حية، لئلا تصبح معاناتهم مجرد أرقام في نشرات #الأخبار، بل جرحاً مفتوحاً في ضمير الإنسانية، ليعلم الجميع أن وراء كل قيدٍ حكاية صمود، ووراء كل صرخةٍ حقاً لا يموت.



