متابعة قدس: بين جدران سجون الاحتلال، تدور حرب صامتة لا تُرى بالعين، لكنها تُمارس بكل قسوتها ضد قيادات الحركة الأسيرة، حرب تقوم على التعذيب والعزل والتجويع، وتستهدف قتلهم ببطء داخل الزنازين المغلقة بعيدًا عن أي رقابة أو مساءلة. هناك حيث تُحجب الأعين عن المشهد، وتُغلق الأبواب أمام أي اتصال بالعالم الخارجي، يواجه الأسرى أقسى أشكال التنكيل تحت ذريعة “حالة الطوارئ” التي فرضها الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لتحويلها إلى غطاءٍ لانتهاج سياسة انتقامية ممنهجة.
زيارات المحامين، التي تشكّل خيط الأمل الوحيد لدى الأسرى، تحوّلت إلى رحلة تعذيب جديدة، إذ تُجرى تحت رقابة صارمة، ويُؤخذ الأسير مكبلاً عبر “البوسطة” التي توصف بأنها أداة إعدام بطيء لما تخلّفه من ألمٍ جسدي ونفسي. وفي كل زيارة، يواجه المحامي صعوبةً في نقل حقيقة ما يجري، إذ يُمنع من تسجيل أي صوت أو تدوين أي ملاحظة، فيضطر لحفظ كلمات الأسير عن ظهر قلب، لينقلها إلى العائلة كهمسٍ خافتٍ من خلف الجدران.
ورغم إعلان وزير حرب الاحتلال مؤخرًا إنهاء حالة الطوارئ جزئيًا، فإن شيئًا لم يتغير في واقع سجون الاحتلال، إذ لا يزال الأسرى محرومين من أبسط حقوقهم، وعلى رأسها زيارات الأهالي. أما أخبارهم، فتصل إلى ذويهم عبر شهادات أسرى محررين أو رسائل عابرة تحملها ألسنة المحامين، فيما يواصل الاحتلال حملته المنظمة ضد الأسرى القدامى وقيادات المقاومة الذين استُثنوا من كل صفقات التبادل.
من بين هؤلاء، يبرز الأسير حسن سلامة (54 عامًا) المحكوم بالسجن المؤبد 48 مرة، والذي يعاني أوضاعًا قاسية في سجن “جانوت”. زوجته، غفران زامل، نقلت عنه رسالةً موجعة قال فيها: “كانت لي مقابلة مع الشاباك قبل أسبوع، كانت رحلة من العذاب، قالوا لي إن شئتَ انتحر. فقلت: يا رب، إنّي راضٍ عنك، فهل أنت راضٍ عني؟”. سلامة، الذي استُثني من جميع صفقات الحرية، يواجه سياسة انتقامية واضحة من ضباط الاستخبارات، الذين يصرّون على تذكيره بأن اسمه “خارج الحسابات”.
وفي سجن جلبوع، يتكرر المشهد ذاته مع الأسير عاهد أبو غلمة (57 عامًا) من بيت فوريك، المحكوم بالسجن المؤبد وخمس سنوات إضافية. تقول زوجته إن القمع هناك لا يتوقف: تفتيش متواصل ليلًا ونهارًا، تجويع وضرب ومنع من الحديث خلال الزيارات، حتى إن السجّان يقف خلف الأسير ليمنعه من قول الحقيقة. أما العائلات، فلا تعرف أوضاع أبنائها إلا من خلال من خرجوا من جحيم سجون الاحتلال.
وفي سجن “جانوت” أيضًا، يتعرّض الأسير محمد عرمان (48 عامًا) من خربثا بني حارث، المحكوم بالمؤبد 36 مرة، لتعذيبٍ ممنهج. نجله بلال يروي أن قوات “النحشون” اقتحمت غرفته فجر الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول، واعتدت عليه بالضرب وسكب الماء على رأسه، قبل نقله لمقابلة الشاباك في سجن عوفر حيث تعرّض للتهديد والإهانة.
أما الأسيران معمر شحرور (46 عامًا) ومهند شريم (50 عامًا) من طولكرم، فكلاهما يعاني عزلاً قاسيًا وتجويعًا متواصلًا. شحرور فقد معظم وزنه ولم يُترك له سوى قطعة ملابس واحدة، فيما يواجه شريم تعذيبًا نفسيًا حين أخبروه أن حركته “تخلّت عنه بعد الصفقة”، في محاولة لتحطيم إرادته. ومع ذلك، يؤمن بأن الحرية لا تُقاس بالزمان ولا بالمكان.
وتواصل إدارة سجون الاحتلال حربها الخفية بسحب ما حققته الحركة الأسيرة عبر عقودٍ من النضال والإضرابات، من حقوقٍ كالتصوير مع العائلة أو التواصل الدوري، لتعيد الأسرى إلى نقطة الصفر، حيث لا صوت لهم ولا هواء. وبينما توقفت حرب الإبادة في غزة، فإن حربًا أخرى، أكثر صمتًا وأشد قسوة، تدور خلف الأسوار، تستهدف كسر رموز الأسرى وقادتهم عبر القتل البطيء.



