منذ سقوط النظام السوري في ديسمبر/2024، توغلت إسرائيل في جنوبي سوريا، وتدرّج سلوكها العسكري والأمني مع مرور الوقت. كسرت اتفاقية فض الاشتباك 1974 ودخلت المناطق المنزوعة السلاح التي تشرف عليها الأمم المتحدة بموجب الاتفاقية، والتي يفترض أن تبقى محايدة، تقدّمت بحدود أكثر من 3 كم في الداخل السوري، وعززت مواقع عسكرية، ونقاط مراقبة، وأقامت بسرعة 9 قواعد عسكرية بدءاً من جبل الشيخ، مروراً بمدينة القنيطرة المساحة الخصبة للقواعد العسكرية، وصولاً لأجزاء من غربي درعا، وسيطرة نارية تصل حتى ريف دمشق الغربي، مع تأكيد شبه دائم على عزمها تجريد جنوبي سوريا من السلاح، وخلق هامش حركة عملياتيّ سارعت إسرائيل لضمان بقائه حتى خلال محادثاتها مع نظام الشرع، الأخير، الذي رغب بتعديل على اتفاقية 1974، في حين ما تريده إسرائيل اتفاقاً جديداً، يضمن أصل أمني في مستقبل سياسي تتصارع عليه القوى الإقليمية، في إسرائيل، برز تقدير، حول إمكانية حجز دور في المستقبل السياسي للنظام الجديد في سوريا، الذي تدفعه تركيا، وتعمل على ضمان نفوذها في مفاصل قراراته السياسية والعسكرية. كاد الحاجز الأخير، وفق تعبير الإسرائيليين ينهار كعقبة لتحقيق اتفاق أمني مع النظام، لكن الممر نحو السويداء، أحرج الشرع ووضعه في خانة ترتيب حلول بديلة. لم تتخلّ إسرائيل عن هدفها، مع ذلك، ترى فرصة للحوار معه، باعتبار سوريا "أرض الفرص الجديدة."
أخذ النشاط الإسرائيلي بعد سقوط النظام سمات جديدة، تطورت مع الوقت، لكن بالطبع، لم ينسحب الأمر على الحجج التي بقيت إسرائيل تتمسك فيها رغم انهيار النظام الحليف لإيران. عقب تسوية 2018 برعاية الروس، مع الفصائل المعارضة للنظام، تراجعت إيران وحزب الله مسافة 40 كم من الحدود، فتحت التسوية فرصة لتهدئة الأوضاع، عبر إقامة نقاط مراقبة روسية، شهدت قبيل ساعات من سقوط النظام توتراً، وغادرت مسرعةً عقب سقوطه، حيث تقدّمت إسرائيل ودمرت بعض هذه النقاط، كما بقي بعضها فارغاً دون أذى، بحسب مصدر ميداني تحدّث لنا.
وتحت حجج الانتماء لخلايا تتبع إيران وحزب الله وحماس، طبقت إسرائيل استراتيجية في جنوبي سوريا، خلقت معها واقع أمني يشيع معه القلق والتوتر، وفرص اختراق النسيج الاجتماعي. عبر الاعتقال غير القانوني لمواطنين سوريين، بلغ عددهم 45 فرداً، من بينهم أطفالاً قصّراً لم تتجاوز أعمارهم 16 عاماً، يغيب ملفهم بشكل شبه تام عن أجندة السياسة السورية، وكذلك الإعلام، الذي يكتفي بخبر اختطافهم دون خلفيات الحدث وأبعاده.
توزّعت الاعتقالات بكثافة في محافظة القنيطرة، هناك، تتوالى التوغلات، وعمليات الدهم، وحتى الملاحقة والإيذاء في المناطق القريبة من القواعد العسكرية الجديدة، يفرض الاحتلال الإسرائيلي واقع أمني مستحدث يضيّق على الأهالي. نشطت الاعتقالات، خلال شهري حزيران وتموز 2025، تحديداً، في بيت جن بريف دمشق، وطرنجة في القنيطرة، واستهدفت أحياناً، أفراداً من عائلة واحدة، كما حصل في بيت جن في 12 حزيران، احتجزت إسرائيل 7 أفراد، حسبما وثّقت هيومن رايتش ووتش في تقريرها، وكانت تلك الحالة الأخطر والأكثر سعةً من لاحقاتها وفق تحليلنا لمعلومات من مصادر مفتوحة.
الجديد، أنّ الاعتقال، لم يقتصر على حالات الدهم والتفتيش بحجة وجود أسلحة، بل تسرّب إلى حالة التجوال ولو مروراً ضمن الأراضي السورية المحاذية للقواعد العسكرية الإسرائيلية، وثّقنا شهادة أخ معتقل من حوض اليرموك في درعا، اختطفته قوات الاحتلال مع ابن عمه؛ هما بهاء وعلي العبد الله. يقول لنا: مضى على اعتقال أخي وابن عمي 3 أشهر تقريباً، كانوا في زيارة طبيعية لجدّتي في منزلها في معرية، عقب خروجهم من عندها، وهم يستقلّون دراجة نارية، أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي النار الحي عليهم وأصابتهم، وتضيف جدّتهم: فور مغادرتهم منزلي عمدت قوات الاحتلال إطلاق النار عليهم، توغلت بعدها بقوّة منظّمة وقامت باعتقالهم دون أي مبرر أو سبب واضح.
يضيف أخ المعتقل، وهو يبادرنا بشوق: فيكم "تساعدونا ليرجع أخي وابن عمي"؟ إنّ إصابتهما استدعت علاجاً، نُقلوا على إثرها إلى المركز الطبي في الجليل (مستشفى نهاريا)، وعند تواصلنا مع الصليب الأحمر، أخبرنا قبل شهر تقريباً، أنهم يخضعون للتحقيق، ويكتفي بذلك، دون معرفة حقيقة مصيرهم ومستقبلهم، ونحن ما زلنا ننتظر أي خبر، هم شباب مدنيون، في مراهقتهم الأولى، لا ارتباطات عسكرية لهم."
تطبق إسرائيل، في تعاملها مع السوريين المعتقلين بعد سقوط النظام، قانون "مقاتل غير شرعي"، وهو غطاء إسرائيلي لاعتقال المدنيين سبق وأن استخدمته على الفلسطينيين، تمت المصادقة عليه، لدوافع سياسية – أمنية، عام 2002، واستمرّت تعديلاته بعد أكتوبر 2023، وزادت بموجبها فرص عزل المعتقل عن العالم الخارجي، وإخفاء أي أدلة تحت بند "السرّية"، وكذلك مدّة اعتقاله وتمديدها، ومنع المنظمات الدولية من الإطلاع على أوضاع وظروف المعتقلين.
وهو "يشرّع اعتقال الأفراد الذين يشتبه بكونهم منخرطين في أعمال عدائية ضد إسرائيل، ويتم احتجازهم لأجل غير مسمى دون لائحة اتهام ومحاكمتهم دون إبراز الأدلة؛ بحجة وجود ملف سري يدين المحتجز.
يقول الحقوقي الفلسطيني المختص في مجال الدفاع عن المعتقلين والأسرى الفلسطينيين، خالد محاجنة، "إن عشرات المعتقلين من سوريا ولبنان محتجزون في هذا الإطار، دون وجود أي دلائل أو تهم واضحة ضدهم، بظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية، ويحتجز لجانب اللبنانيون والفلسطينيون سوريون في قسم سري تحت الأرض داخل سجن الرملة الذي يُعرف باسم "راكيفت" أو "إيلون"، ويقضون 24 ساعة يومياً داخل الزنازين تحت مراقبة كاميرات ترصد أدقّ تحركاتهم، ويمنع عليهم التحدّث مع بعضهم البعض، حتى خلال جلسات المحاكمة."
كرّس الاحتلال الإسرائيلي عبر إقامة نقاط التفتيش في محافظة القنيطرة، على مداخل القرى والطرق الرئيسة التي تشكل عصب حركة السكان، سلوكاً استخبارياً بهدف جمع المعلومات، والتدقيق في هويات المارّة وتفتيشهم، وكذلك اعتقالهم، خلال شهر أيلول 2025 بحسب مركز سِجِل
وثّقنا شهادة والد الشاب المعتقل وديع بكر، البالغ من العمر 21 من مواليد طرنجة، يقول والد المعتقل: "تم اعتقال ابني بتاريخ 13 يونيو 2025،جرى اعتقاله أثناء مروره بالطريق في تمام الساعة 11 صباحاً، عند "حاجز طيّار" تابع لقوات الاحتلال الإسرائيلي، وتم نقله إلى الداخل المحتل. لا توجد أي معلومات عنه حتى الآن، ونتواصل فقط مع مختار بلدة جباثا، محمد مازن مريود، الذي يتواصل بدوره مع وسيط دولي، على تواصل مع ضابط ارتباط إسرائيلي من أصول يمنية، وأحياناً يأتي الضابط مباشرة إلى المنطقة؛ نظراً لوجود نقطة تابعة لجيش الاحتلال في منطقة جباثا، عند سؤال الضابط عن المعتقلين السوريين، تكون إجابته مقتضبة، ويؤكد أنهم بخير ويتلقون الطعام والشراب، ولا يزالون قيد التحقيق، فيما تظل التهمة الموجهة إليهم مجهولة،توجهنا إلى الصليب الأحمر في المالكي بدمشق وقوات الأندوف بنبع الفوار للاستفسار عن القضية، لكننا لم نحصل على أي إجابة واضحة منذ تاريخ الاعتقال، كل ما نريده هو أن يعود أبناؤنا إلى منازلهم أو أن يُسمح لنا بسماع أصواتهم، فهذا حق مشروع لنا كأهل وأسر
يلتقي مع والد وديع في الألم، أخ المعتقل محمد ليلا مواليد 1988، إذ يروي لنا، أنّ اعتقال أخيه فجر 15 حزيران/2025، تم دون أي اعتبار للظروف الإنسانية، ويضيف، في الساعة الثانية والنصف فجراً، اقتحمت قوات الاحتلال منزل أخي ودمّرت محتوياته قبل اعتقاله، قمنا بعدها بالتواصل مع الأمم المتحدة والصليب الأحمر في دمشق بشأن هذه القضية. وفقاً لما ورد عن جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن الاتهامات الموجهة إليه تتركز حول قيامه بعمليات إرهابية ضد إسرائيل. محمد يعمل كفلاح في مزرعة خاصة به، وخلال عملية الاقتحام، طرحت علينا قوات الاحتلال أسئلة تتعلق بوضعنا المعيشي في المنطقة وعلاقتنا المحتملة مع هيئة تحرير الشام وحماس وحزب الله، وضع محمد المعيشي متوسط، واليوم، تفقد شفاه طفلته البالغة من العمر 7 أشهر نطق "بابا".
بذلك، تكون الصورة التي ترسمها هذه التطورات ليست مجرد فصل جديد من فصول الصراع، بل هي إعادة هندسة جيوسياسية لمنطقة حيوية. إنها تحوّل يعتمد على خلط الأوراق بين القوة العسكرية المباشرة، والإكراه الأمني اليومي، والمفاوضات السياسية طويلة المدى، ليُخرج جنوب سوريا من معادلة الصراع السوري الداخلي ويضعه في قلب حسابات الصراع الإقليمي، حيث تتصارع القوى على تقاسم النفوذ في "أرض الفرص الجديدة"، على حساب أبسط حقوق الإنسان هناك ومستقبلها السياسي المجهول.



