شبكة قدس الإخبارية

خطة انسحاب أم خارطة احتلال؟ قراءة في المرحلة الأولى من الخطة الأمريكية

معرض صورتان (4)
أحمد الطناني

خاص قدس الإخبارية: من المقرر أن تُعقد في القاهرة جولة تفاوضية غير مباشرة تجمع وفد الاحتلال الإسرائيلي بوفد حركة حماس، بوساطة عدة أطراف دولية وإقليمية، من بينها حضور معلَن للمبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف، وجاريد كوشنر -صهر الرئيس دونالد ترامب- الذي، رغم افتقاده إلى صفة سياسية رسمية، ظل فاعلًا في رسم خرائط مستقبل قطاع غزة وكان من مهندسي ما عُرف بصفقة القرن خلال الولاية الرئاسية السابقة للرئيس ترامب.

وفي خطوة لافتة، نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصته خريطة تُظهر خط الانسحاب الأولي المُقترح لقوات الاحتلال من أجزاء من قطاع غزة، كجزء من المرحلة الأولى المقترحة لاستكمال صفقة تبادل الأسرى. 

وتتطابق الخريطة تقريبًا مع الخطوط التي كشفت عنها إدارة البيت الأبيض قبل نحو أسبوع، ضمن خطة أمريكية موسعة من 20 بندًا تهدف رسمياً إلى وقف الحرب في غزة.

وفقًا للعرض الأمريكي، سيجري بعد هذا الانسحاب الأولي نقل السيطرة تدريجيًا إلى قوة دولية عربية-إسلامية مقترحة، تقترن مهمتها بنزع السلاح داخل القطاع وضمان تنفيذ بنود التهدئة. 

من جهة أخرى، كانت حركة حماس قد أعلنت موافقتها المبدئية على مبدأ "إطلاق سراح كل الأسرى - أحياءً و/أو جثثًا - بموجب عملية تبادل وفق رؤيةٍ أمريكية"، لكنها أحالت معظم التفاصيل إلى مسارات تفاوضية متعددة: جزءٍ تُديره الحركة منفردة ويتعلق بالجوانب العملياتية للتبادل، وجزءٍ يُدرَس ضمن إطارٍ وطني أوسع يتناول ملفات استراتيجية كـتدويل غزة ومستقبل السلاح والنظام السياسي الفلسطيني.

مع ذلك، تعاملت واشنطن مع موقف حماس وكأنهما قبول صامت بشروط الخطة، وشرعت في صياغة الخطوات القادمة كمسارٍ وحيدٍ، مصحوبًا بتهديدات صريحة — أهمها خطر استكمال التدمير الميداني لمدينة غزة وغطاء أمريكي كامل لاستكمال الإبادة، إذا لم تُقبل الخطة كما قُدِّمت.

سيطرة بلا تكلفة: خرائط إعادة الانتشار

الخرائط التي طرحها الرئيس الأمريكي ضمن ما يسمى بالمرحلة الأولى من الاتفاق، لا تمثل بأي شكل "خارطة انسحاب" من قطاع غزة، بل أقرب إلى خطة لإعادة انتشار تكريسًا للسيطرة التي حققها جيش الاحتلال خلال عملية "عربات جدعون 1"، والتي مكّنته من بسط نفوذه على نحو 70% من مساحة القطاع.

تُظهر الخريطة أن جيش الاحتلال يعتزم البقاء بعمق يصل إلى 3.5 كيلومترات من الحدود الشمالية، وامتداد مشابه من أقصى الشمال الشرقي في بيت حانون وشرق جباليا والشجاعية، بينما يتراجع العمق تدريجيًا إلى 2.2 كيلومتر في منطقة الزيتون، و1.5 كيلومتر شرق المحافظة الوسطى، وقرابة كيلومترين في منطقة القرارة بين دير البلح وخانيونس، وصولًا إلى عمق 6.5 كيلومتر في جنوب القطاع. كما يُبقي الاحتلال على وجود عسكري بعمق يقارب كيلومترين عند الحدود الجنوبية.

وبذلك، تُبقي الخطة الاحتلال داخل مناطق واسعة تشمل بيت حانون وبيت لاهيا بالكامل، وعزبة عبد ربه، وشرق جباليا، والشجاعية، والزيتون، وشرق البريج والمغازي، وشرق ووسط خانيونس، ومدينة رفح بكاملها. 

أي أن الخريطة المقترحة ليست أكثر من تجميد لمواقع انتشار القوات الإسرائيلية الحالية، مع نزع أي التزامات قانونية تُصنفها كـ"قوة احتلال" مسؤولة عن السكانالمطرودين قسرًا من أرضهم، ما يجعلها سيطرة فعلية من دون كلفة قانونية أو ميدانية، خصوصًا في ظل تعطيلالاتفاق لقدرة المقاومة على الاستنزاف طالما بقيت قوات الاحتلال على الأرض.

وما لم تكن هذه الخريطة مجرد طرح تكتيكي للوصول إلى تفاهم أعمق حول خطوط الانسحاب النهائية (والتي دارت سابقًا حول عمق يتراوح بين 1000 و1200 متر شرق القطاع)، فإن مآل المفاوضات يبدو متجهًا نحو الفشل الحتمي. 

وفي هذا الإطار، فإن قبول هذه الخرائط يعني تثبيت نمط انتشار إسرائيلي طويل الأمد وربط الانسحاب بشروط زمنية وأمنية غير قابلة للقياس، ما يبقي مئات آلاف النازحين خارج مناطق سكنهم الأصلية، محصورين في المخيمات الوسطى ومناطق المواصي جنوبًا.

نوايا عدوانية وخطط بعيدة المدى

يحمل شكل ونمط انتشار جيش الاحتلال على الأرض مؤشرات خطيرة. أولًا، يشي هذا الانتشار بإمكانية استكمال آلة التدمير الشامل للبُنى الحضرية في مناطق التمركز -نموذج تكرر في رفح خلال فترة التهدئة بعد اتفاق 19 يناير/كانون الثاني 2025، حين لم تتوقف الضغوط والعمليات حتى في أوقات الهدنة - ما ينبئ بأن مصير المناطق التي سيبقى فيها الجيش لن يختلف كثيرًا: هدم ممنهج وعمليات جرافات مستمرة تُعيد إنتاج خرابٍ معروف الهدف.

ثانيًا، يمنح هذا الانتشار الاحتلال قدرة على العودة بسرعة إلى مهاجمة غرب مدينة غزة أو المناورة بريًّا ضد ما تبقى من مناطق داخل القطاع -المخيمات الوسطى والشريط الساحلي لغربي خانيونس- من دون الحاجة لتمهيد ناري طويل أو عمليات إخلاء واسعة، لأن المواقع التي ستنطلق منها هذه الهجمات ستبقى تحت سيطرة مباشرة، خصوصًا وأن بقاء القوات طويلاً في مواقع عمقية سيحوّلها إلى رؤوس جسور لتمديد العمليات الهجومية عند أي قرار سياسي أو ميداني.

ثالثًا، يخلق الامتداد الجغرافي الكبير فرصة لتوسع شبكات إجرامية ومجموعات متعاونة مع الاحتلال: عصابات محلية وعناصر مُعدة لتنفيذ مهام أمنية وإدارية تقلّد نموذجًا يشبه ما عرف سابقًا بـ"جيش لبنان الجنوبي" أو "لحد" -كتل محلية متعاونة تعمل كحاجز بشري بين كتلة غزة الديمغرافية وغلافها، مدعومة بوجود عسكري إسرائيلي خلفها، ما يؤدي إلى تقويض النسيج الاجتماعي وتمكين تحكُّم احتلالي أقل كلفة ومخاطر مباشرة على القوات.

كما رُصد توسع حالات التعاون الإجرامي التي كانت محدودة سابقًا، لتطال مناطق في خانيونس وغزة وشمال القطاع، حيث استُخدمت هذه الشبكات في مهام اكتشاف مواقع المقاومة والأنفاق وفي الضغط على السكان ودفعهم للنزوح القسري. 

ولا تعكس هذه الديناميكية سعي الاحتلال لتحقيق أمن مؤقت، بل السعي لتشكّل آلية طويلة المدى لتفتيت المجتمع المحلي وإحلال طبقات متعاونة تخدم أهداف الاحتلال السياسي والأمني.

محددات المرونة والصلابة لدى المقاومة

سبق وأن وضعت المقاومة الفلسطينية مجموعة محددات واضحة تشكل الإطار الذي يُقاس به أي مَدى من المرونة أو التصلب في مواقفها التفاوضية، وفي جوهر هذه المحددات قاعدة أساسية: وقف حرب الإبادة فورًا، ورفع المعاناة الإنسانية عن أهل القطاع، وتفكيك آليات العدوان على الأرض، وعلى رأسها إنهاء وجود الاحتلال داخل أراضي قطاع غزة.

من هذا المنطلق، ترفض المقاومة أن يتحول بقاء قوات الاحتلال داخل "مناطق عازلة" إلى غطاء دائم لوجود إسرائيلي على الأرض. 

وقبول أي تواجد مؤقت -إن وُجد- يجب أن يقتصر على مساحات حدودية غير مأهولة، أو أراضٍ زراعية فاصلة تفصل بين غزة والأراضي المحتلة، مع آليات مؤقتة وملزمة تضمن انسحابًا نهائيًا وكاملاً في نهاية مراحل الاتفاق.

إزاء العرض الأمريكي الحالي، فإن المقترح يهدد جوهر هذه القاعدة التفاوضية ويضعف مدخل المرونة الذي يحكم السلوك السياسي للمقاومة، وإذا ظلت واشنطن متمسكة بتصورها وخريطتها المبنية وفق الحاجة والرؤية الإسرائيلية، واعتُبر ذلك محصورًا وليس محل تفاوض جوهري، فتصبح احتمالات النجاح ضئيلة للغاية.

في هذه الحالة يتحول الإطار التفاوضي إلى مجرد آلية لإنهاء ملف "الأسرى" دون تفكيك مفاعيل العدوان أو ضمان وقف حقيقي للاحتلال، ودون جداول زمنية ملزمة أو ضمانات تنفيذية - وعلمًا أن تاريخ الاحتلال يثبت تنصله من أي نصوص زمنية. وبهذا السيناريو، تكون النتيجة على أفضل تقدير واقعًا مستدامًا للعدوان المموه تفاوضيًا، وعلى أسوأ تقدير بوابة لاستئناف عدوان جديد.

فضاء تفاوضي أم قولبة للاحتلال؟

ما يُعرض اليوم في القاهرة ليس مجرد وثيقة تفاوضية فنية حول تسهيلات مؤقتة أو إجراءات ميدانية لعملية تبادل أسرى، بل محاولة منظّمة لصياغة واقع ما بعد الحرب يضمن للاحتلال ثغرات نفوذ دائمة بأدوات "تفاوضية" ومسمّيات دولية. 

الخرائط المقترحة، بصيغتها الراهنة، تكرّس هيمنة إسرائيلية على الأرض من دون تكلفة قانونية أو سياسية تُذكر، وتضع قضايا مصيرية للفلسطينيين – كوقف التهجير، حقوق الإعمار وعودة السكان لأرضهم، ومستقبل السلاح الوطني-تحت ضغط اختزالي يركّز على استرداد أسرى الاحتلالضمن شروط أحادية.

ومن مدخل كون الأولوية الإنسانية والسياسية الحقيقية تتمثل في وقف الحرب وحماية المدنيين وإعادة أهلهم إلى بيوتهم، فليس ثمة ما يبرر أي ضغوطات تهدف إلى تمريرمقترحات تُحافظ على آليات العدوان وتهيئ أرضية لتكرارها. 

في ضوء ذلك، تبدو الخيارات الفلسطينية محدودة، وفي ذات الوقت حاسمة، فإما فرض سقف تفاوضي يؤمن انسحابًا كاملاً وملزمًا يضمن عودة السكان وحماية بنى الحياة، أو الانزلاق إلى مشهد يشرعن احتلالًا متجدّدًا بغطاء دولي ويُبقي الباب مفتوحًا لعودة حرب الإبادة واستدامة معاناة أهالي القطاع.