خاص - شبكة قدس الإخبارية: منذ أن بدأ الاحتلال بحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، سعى إلى تدمير المظاهر الثقافية والعلمية والأكاديمية عبر آلة الحرب الدموية، في حين فقد المشهد الثقافي والعلمي الفلسطيني في قطاع غزة العديد من رموزه.
ومن الواضح في مسار الإبادة الجماعية، إن الاحتلال اختار تصفية النخب الثقافية والعلمية في القطاع، وفق استراتيجيات محددة تهدف إلى إنهاء مقومات أي تقدم مستقبلي للفلسطينيين، وقد ظهر ذلك بوضوح في تدمير المعالم الأبرز علمياً وتاريخياً في قطاع غزة منذ الأيام الأولى للحرب، ضمن أهدافٍ تجاوزت القتل والانتقام من الشعب الفلسطيني فحسب، بل ترك آثار عميقة الأثر في البنية العلمية الفلسطينية.
عقول ومواهب على مقصلة الإبادة
وتنوعت الشخصيات الثقافية التي استشهدت بحرب الإبادة لتشمل الفانيين التشكيليين والكتاب الروائيين والشعراء، والعلماء، والمؤثرين الذين عملوا بمجال التمثيل السينمائي والتلفزيوني، ومنهم الروائية هبة أبو ندى الحاصلة على جائزة الشارقة للرواية العربية، ونور الدين حجاج أحد مؤسسي مبادرة شغف الثقافية، وبلال جاد الله مؤسس بيت الصحافة، والفنانة الشابة هبة زقوت، والكاتب عبد الله العقاد، والروائي والشاعر عمر أبو شاويش، والفنان الساخر علي نسمان، والفنانة المسرحية إيناس السقا، والعازفة الموسيقية لبنى عليان، والمغني يوسف دواس، والفنان التشكيلي محمد قريقع، والمسرحي غازي طالب، والمفكر الشاعر رفعت العرعير.
أما العلماء والشخصيات الأكاديمية، فتم استهدافهم بشكل واسع النطاق، حيث تم اغتيال أكثر من 100 شخصية أكاديمية وعملية في القطاع، حاصل بعضهم على درجة بروفيسور ودكتوراة، وباحثين، بمختلف التخصصات العلمية.
وأبرز هؤلاء العلماء الدكتور سفيان تايه، رئيس الجامعة الإسلامية بغزة، والدكتور سعيد الزبدة رئيس الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، والدكتور أمين البحطيطيي، أستاذ طب الأسنان بجامعة الأزهر، والدكتور سعيد طلال الدهشان، أستاذ وخبير القانون الدولي بجامعات غزة، وغيرهم، في حين استشهدوا جلهم في مجازر مروعة برفقة عائلاتهم.
طمس الهوية وإعدام المباني
ولم يقتصر استهداف الاحتلال الإسرائيلي على قتل الفنانيين والعلماء، بل عمد إلى تدمير كل ما يمكن أن يرمز إلى وجود حياة علمية وثقافية داخل القطاع، فعمد على تدمير الجدران واللوحات التي رُسمت عليها الجداريات في شوارع قطاع غزة، واستعاض عنها بكلام بذيء كتبه جنود في مقتبل العمر، يهددون الفلسطينيين بالموت الزؤام أو يعلنون أنهم قاموا باغتصاب نساء فلسطينيات، مع الشعارات العنصرية.
إضافة لتدمير النُصب التذكارية في قطاع غزة، مثل تمثال الجندي المجهول الشهير في حي الرمال، وتمثال العنقاء وسط مدينة غزة، والنصب التذكاري للفنان جهاد عسقول في دوار الشيخ زايد، بعنوان المفتاح والعودة.
ودمر جيش الاحتلال المباني الأثرية والمتاحف، مثل المسجد العمري الكبير بغزة، وقصر الباشا، ومتحف المتحف، ومتحف البادية شرق مدينة غزة، ومقام الخضر بدير البلح، ومتحف العقاد بخان يونس، وتل العجول، وتل رفح الأثري، واستهداف ميناء الأنثيدون والكنيسة البيزنطية في مخيم جباليا، وموقع تل أم عامر، وتل السكن، وتل المنطار التاريخي، في إطار محاولات طمس الهوية للمكان.
كذلك قامت طائرات الاحتلال، لاحقاً، باستهداف بيوت ومبانٍ تاريخية، مثل بيت السقا الأثري، وبيت ترزي، وسباط العلمي، وهي الأماكن التي احتضنت الأمسيات الشعرية واللقاءات الفنية ونشاطات ثقافية. كما تم استهداف حمام السمرة الأثري، الموغل في القدم، وسوق الزاوية التاريخي، ومقر بلدية غزة الذي تشهد جدرانه على الأصالة والعراقة، بالإضافة إلى قلعة برقوق في خان يونس التي تم تدمير جدرانها بالكامل.
واتجه جيش الاحتلال إلى استهداف المكتبات العامة ومكتبات الجامعات وإحراقها أو تدمير مبانيها بالديناميت، كما جرى مع مكتبة بلدية غزة العامة، ومركز رشاد الشوا الثقافي، ومكتبة ديانا تماري صباغ، ومركز الثقافة والنور، ومركز القطان للطفل، ومكتبة بلدية خان يونس، ومكتبة بلدية رفح، ومكتبة جمعية الهلال الأحمر، ومكتبة جواهر لال نهرو في جامعة الأزهر، ومكتبة جمعية الشبان المسيحية، وغيرها من المكتبات الشخصية ودور النشر مثل مكتبة سمير منصور، ومكتبة الفارس (اليازجي)، ومكتبة الشروق، وصولاً إلى دار الكلمة.
وقد عمد جيش الاحتلال لاحقاً إلى تدمير المطابع وحرق الأجهزة وآلات الطباعة، كما جرى مع مطبعة الهيئة الخيرية في مبنى رشاد الشوا الثقافي، ومكتبات النهضة والوسيم والنعيم والنبراس والتقوى وغيرها، لضمان عدم قدرة الفلسطيني على الكتابة والنشر داخل قطاع غزة من جديد.
ومن خلال الاطلاع على مسارات حرب الإبادة وخاصة مسار اغتيال العلماء والشخصيات الثقافية، يمكن القول أن الاحتلال الإسرائيلي يتبع الاستراتيجية الأمريكية التي استُخدمت في العراق بعد عام 2003، والتي طالت عشرات العلماء العراقيين فضلاً عن سرقة العديد من الأبحاث العلمية من الجامعات العراقية، فيما لم يهدف الاحتلال في قطاع غزة إلى السرقة فحسب، بل إلى التدمير الكلي لأي بنية علمية أو ثقافية.
أما عمليات تدمير المواقع الإسلامية والمسيحية والإنسانية، وقصف الوثائق التاريخية في مبنى الأرشيف المركزي بمقر بلدية غزة، والعديد من الأماكن الأثرية والثقافية التاريخية، ومن ثم تدمير متاحف ومساجد عريقة وتاريخية وعدد من الكنائس والأديرة والمقابر القديمة، إلى جانب تدمير أسواق وبيوت قديمة في البلدة القديمة وسط مدينة غزة، التي تضم أكثر من 150 موقعا أثريا وتاريخيا، يقع ضمن إطار عمليات طمس الهوية الحضارية للشعب الفلسطيني ولقطاع غزة.
فيما لم تندرج العملية على تدمير المباني فحسب، بل تدمير الذاكرة الفلسطينية وإخراجها من إطار الوعي في خضم الصراع التاريخي والوجودي بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي منذ بدء القضية الفلسطينية.
وفي الواقع، فإن سياسة الاحتلال التي استخدمت في قطاع غزة تهدف إلى استكمال مشروع نكبة عَام 1948 وهي جريمة مستمرة، ولم تتوقف منذ أكثر من 75 عاماً، حيث كانت حرب النكبة التجسيد الأوسع للاستيطان الإحلالي القائم على نزع الشعب الفلسطيني من سياقاته الحضارية والاجتماعية والثقافية ونفيه أو قتله، فيما برز ذلك جليلاً في المجازر التي أودت بحياة أكثر من 45 ألف فلسطيني في القطاع، الذي تم تدميره.