من المرجح أن تستمر حرب الاستنزاف في قطاع غزة لأشهر عديدة قادمة؛ ومن المرجح أن تتمكن المقاومة في القطاع من متابعة أدائها النوعي، بالرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمتها، وبالرغم من الوحشية الصهيونية وإمكاناتها وتحالفاتها الطاغية، والمجازر وحالات الدمار التي أحدثتها، وبالرغم من الخذلان والحصار العربي والإسلامي.
كان هذا أحد التوقعات التي أثارتها حلقة النقاش التي نظمها مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، والتي شارك فيها نخبة وازنة من الخبراء والمتخصصين في الشأن الفلسطيني والإسرائيلي والعربي والدولي، يوم الأربعاء (27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024). وقدم الزملاء أحمد الحيلة ومعين الطاهر ومهند مصطفى ومأمون أبو عامر وزياد ابحيص وعاطف الجولاني وابراهيم فريحات أوراقا مهمة، مع مداخلات ومناقشات مفيدة لزملاء آخرين. وفي هذا المقال يستخلص كاتب هذه السطور عددا من المسارات المتوقعة، بناء على النقاشات وأوراق العمل، وبناء على تحليله لمسار الأحداث.
بشكل عام، سيواجه قطاع غزة تحديات ومخاطر أكبر في الأشهر القادمة، خصوصا بعد توقف القتال على الجبهة في شمال فلسطين، مما يتيح للحكومة الإسرائيلية التفرغ بشكل أكبر لمعركتها في غزة. كما أن قدوم ترامب سيتيح بيئة أفضل لنتنياهو لتصعيد الهجوم الوحشي على غزة على الأقل في الأشهر الأولى لحكم ترامب.
ولذلك، فمن المتوقع أن يواصل نتنياهو تنفيذ خطة الجنرالات في شمال قطاع غزة، والسعي لتفريغه من الفلسطينيين، مع استخدام سلاح التجويع إلى جانب المجازر والتهجير والتدمير. ومع ذلك، فإن المقاومة التي ستواصل صمودها وأداءها، ستواجه تحديات مرتبطة بمحاولة إضعاف الحاضنة الشعبية وإثارتها ضد المقاومة، كما ستواجه مناورات سياسية عربية ودولية تهدف إلى الوصول إلى اتفاقات وصفقات تفرغ المقاومة من انتصاراتها وتلغي أثمان تضحياتها. وقد تشترك سلطة رام الله في هكذا صفقات تستجيب للتصورات الإسرائيلية لليوم التالي في قطاع غزة بدرجة أو بأخرى، مثل نزع أسلحة المقاومة، ودخول قوات عربية ودولية تضمن تنفيذ الشروط الإسرائيلية، وبقاء قوات إسرائيلية في بعض المحاور داخل غزة، مع إيجاد بيئات تهجير وغير قابلة للحياة في القطاع؛ وعمل صفقة أسرى "متواضعة".
ولا تملك المقاومة في هكذا ظروف إلا الاستمرار في أدائها، ومتابعة استنزاف العدو، حتى يصل هو وحلفاؤه والمتعاونون معه إلى قناعة بأنه لا يستطيع فرض شروطه، كما أن على المقاومة السعي لبذل كل الجهود السياسية لتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز التحالفات والعلاقات عربيا وإسلاميا ودوليا، وتحويل بيئات التعاطف الشعبي والإنساني إلى برامج عمل ضاغطة وفعالة تساند المقاومة في مواجهة الاحتلال.
في الإطار الإسرائيلي فإن المجتمع الصهيوني سيظل تحت هيمنة اليمين القومي والديني، وستدفع تلك البيئة باتجاه مزيد من السلوك العدائي تجاه الفلسطينيين، وتجاه مزيد من برامج التهويد خصوصا في القدس وباقي الضفة الغربية، غير أن فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه المعلنة تجاه غزة، وانتهاء بنك أهدافه تقريبا، وتصاعد الضغوط الداخلية لوقف الحرب في غزة والوصول إلى صفقة أسرى، مع استمرار النزيف العسكري والاقتصادي الإسرائيلي، وزيادة العزلة الدولية، وتصاعد المشاكل الداخلية الإسرائيلية بما في ذلك زيادة "النزعات المليشاوية" مقابل "الدولة المدنية"، وزيادة النزاع على "هوية الدولة" علمانيا أو دينيا.. كل ذلك سيوجد أزمات بنيوية وحقيقية لدى التجمع الصهيوني.. تعطي فرصا أفضل لتأثير العمل المقاوم.
ومع قدوم ترامب وبوجود الحكومة الصهيونية الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الإسرائيلي، من المتوقع أن تتزايد الضغوط باتجاه تهويد المسجد الأقصى والقدس والضفة الغربية. ومع عدم تحقيق الأهداف الإسرائيلية في حربها على غزة، قد يلجأ ترامب إلى "تعويض" نتنياهو في الضفة مقابل الوصول إلى صفقة "حل وسط" تُنهي حربه على غزة.
وتتمثل الخطورة في أن ترامب لا يعبأ بحل الدولتين ولا باتفاقات أوسلو، وليس لديه مانع من ضم مناطق "ج" في الضفة الغربية وهي نحو 60 في المئة من مساحتها. وليس لديه مانع من فرضِ تقاسمِ اليهود للمسلمين للمسجد الأقصى زمانيا ومكانيا، وكذلك تقاسم السيادة عليه. كما أن ذلك قد يترافق مع الإلغاء العملي للسلطة الفلسطينية في الضفة، ومحاولة جمع الفلسطينيين في ستة أو سبعة كانتونات، مع إيجاد بيئات تهجير طاردة لأهل الضفة. وهذا بحد ذاته يشكل تهديدا وجوديا للسلطة وتهديدا خطيرا للأردن، مما يفرض عليهما الاستعداد لمواجهة هذه التحديات. ومن جهة أخرى، سيسهم ذلك في إنضاج الظروف الموضوعية لانتفاضة واسعة شاملة في الضفة، مع حالة تفكك السلطة ومع انعدام أي آفاق أمام الفلسطينيين سوى من خلال المقاومة المسلحة.
من ناحية أخرى، سيستمر الضعف العربي والإسلامي، وستتواصل سياسة الخذلان والحصار العربي تجاه غزة والمقاومة في الأشهر القادمة، وسيحاول ترامب إطلاق موجة جديدة من "الاتفاقات الإبراهيمية"، وسيبذل جهودا كبيرة لإدخال السعودية في اتفاقات التطبيع، مقابل بعض "جوائز التَّرضية" في الملف الفلسطيني،وربما تراجع الدور القطري المصري في مسار الوساطة ووقف الحرب لصالح تزايد الدور السعودي. وقد يتم الضغط العربي والدولي على قيادة السلطة في رام الله للعب دور "ذكر النحل" في توفير الغطاء والشرعية لاتفاقات التطبيع، وللترتيبات المتعلقة بمستقبل غزة بعد الحرب.
ومع توقف الإسناد العسكري المباشر للمقاومة في غزة من جنوب لبنان، وبعد أداء قوي فعال، نتيجة العدوان الصهيوني الوحشي المسنود بقوى عالمية، ونتيجة الظروف الخاصة بلبنان، فإن المأمول أن يستمر هذا الإسناد من اليمن والعراق وإيران. غير أن الإسرائيليين والأمريكان وحلفاءهم سيسعون لتحييد "محور المقاومة"، وسيمارسون كافة أشكال الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية لتحقيق ذلك، في سعيهم للاستفراد بغزة، وصولا إلى شطب الملف الفلسطيني.
أما البيئة الدولية فليس من المتوقع أن تُغيّر من نمط سلوكها العام الذي مارسته في الأشهر الماضية تجاه معركة طوفان الأقصى، وبالرغم مما تحقق من تعاطف عالمي، ومن مواقف محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، وبالرغم من تحوّل "إسرائيل" إلى "دولة منبوذة"، إلا أن هذا كله لم يمنع الاحتلال الإسرائيلي من مواصلة عدوانه على غزة وعلى الشعب الفلسطيني.. لأن هذه البيئة الدولية غير قادرة على الذهاب إلى خطوات عملية عقابية ضد الاحتلال، وهي ما زالت تتجنب أي مواجهات مباشرة مع الولايات المتحدة التي ترى في الكيان الإسرائيلي حجر الزاوية في سياستها في المنطقة العربية.