مرة أخرى يثور سؤال كان دائمًا محوريًا في الصراع مع الاحتلال، إذ الأخير يجعل الشعب الفلسطيني يُفكر دومًا في ضرورة النهاية، أو أكثر خِيار الخلاص من هذا الاحتلال، أما بخصوص السؤال فهو كالتالي: " هل كان الاحتلال بحاجة ليوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى يُمارس هذه الجرائم بحق أبناء الشعب الفلسطيني؟"، وانطلاقًا من هذا السؤال تبقى الإجابة المفتوحة لعلى الكلمات القادمة تستطيع الإجابة عليه.
انطلاقًا من الكلمات السابقة لم يتوقف القتل والحصار بشتى أنواعه، والاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي أيضًا عن الشعب الفلسطيني، فالاحتلال منذ عام 1948 يستند إلى مبدأ قم واقتل أولاَ، بالإضافة إلى مبدأ العربي الجيد هو العربي المَيْت، وثالثًا إلى لوم الضحية دومًا، ومنذ المؤسسين الأوائل لَمَّا تُسمى "دولة إسرائيل" سواء من كانوا يساريين أو حتى يمينين كانت الجرائم تُرتكب بحق الشعب الفلسطينيين، إذ الاستعمار كفكرة يقوم على مبدأ البقاء للأقوى، وهذا هو ديدن الاستعمار، وأكثر هذه الوظيفة الباطنة للاستعمار، التي تقوم على مبدأ الخوف، بل وأكثر الموت، والأخير هو العصا السحرية في يد الاستعمار، وأيضًا على مبدأ الإبادة السكانية، أو الازاحة السكانية، وتفريغ الأرض من السكان الأصليين.
إذن يستخدم الاحتلال العصا السحرية ضد الشعب الفلسطيني منذ نشوء كيان الاحتلال على أرض فلسطين، ولذلك يستخدم حِجَّة المقاومة أنها سبب في البلاء شماعة لتبرير سلوكه العنيف، والقصد لولا المقاومة لما جرى الحصار، لما جرى القتل...!، وبذلك يقوم الاحتلال بعملية صهر للذاكرة، فضلًا عن ذلك يعمل على إفراغ الشعب الفلسطيني من جدوى المقاومة عبر نظريته التي تقول: "تُريد المقاومة فمصيرك أما السجن أو القبر".
بطبيعة الحال يستند الاحتلال بهذه النظرية على الخوف أولا، والخوف أبدًا ليصبح الشعب الفلسطيني فاقدًا لمبدأ مهم وهو التضحية، وهنا مشروعية المقاومة لا تخضع بالأساس إلى مبدأ الذريعة، حيثُ اعتبار المقاومة ذريعة للاحتلال في ارتكاب الجرائم، هو بمثابة تبرير الاحتلال ذاته، سواء كان هذا التبرير بوعي أو بدون وعي، والأهم هو لوم المقاومة على اعتبار أنها الطرف الأضعف وهنا الطامة الكبرى، وإذا كانت الذريعة هي الصواب، هذا يعني أن كل جريمة اقترفها الاحتلال سواء قبل الحرب، أو حتى ما بعد هي جريمة مبرره، فالأسير لأنه قاوم أعطى الاحتلال ذريعة لاعتقاله، وهنا على سبيل المثال لا الحصر.
وهنا يطرح السؤال التالي: " هل حدثت النكبة عام 1948 بسبب المقاومة؟"، هل كان الاحتلال ينتظر المقاومة ليبدأ في ارتكاب الجرائم؟، فالنكبة هي الفاصل التاريخي لمشروع الصراع في المنطقة ومنها نبدأ ومنها ننتهي، حيثُ هنا يجري تبرير كل شيء بعد قراءة سلوك المقاومة، ولكن ما يجري هنا من تبرير هو أكثر قهرًا وظلمًا من ارتكاب الفعل ذاته وهو القتل والمجازر، والإبادة...، والقصد إن الأصعب من ارتكاب الجريمة دومًا هو الهرولة للبحث عن مبررات لقبولها وجعلها أمرًا واقعيًا، وخصوصًا أن الاحتلال لا يعترف بالذنب أبدًا وهذه أحد خصال الاستعمار، التي تقول: " أنني دائمًا على حق".
من زاوية هي الأقرب لما سبق يُطرح سؤال على شفاه الشعب الفلسطيني، وتحديدًا في قطاع غزة: " ما ذنب الأطفال في هذه الحرب؟"، وقبل الإجابة نعود لنقرأ حِجَّة الاحتلال الخبيثة ومن يُشاطرهم الفكرة، التي تقول: " المقاومة هي السبب؟"، حتى لا تضيع البوصلة نمشي خطوة خطوة، وأول تلك الخطوات تقول: إن المقاومة هي السبب، ولكن هذا لا يُبرر قتل 17 ألف طفل حتى كتابة هذه السطور"، ولربما هنا يقول القارئ أن هذه الحجة معروفة، والاحتلال يضرب بعرض الحائط كل ما يُقال في هذا المضمار، ولكن هذه هي الحِجَّة الأكثر منطقية لدحض مزاعم الاحتلال وعلينا نشرها، خصوصًا أمام هول المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق أطفال قطاع غزة، إذ الاحتلال يُمارس الشعوذة والأكاذيب وأولها "أن المقاومة هي السبب" ليقوم بتنفيذ مشاريعه على الأرض.
في سياق متصل لم تقم يومًا فكرة الاستعمار على سبب المقاومة، حيثُ أسباب الاستعمار في غالبيتها ذات بعد في سياق الاقتصاد، والسلطة، والقوة، والأخيرة هي الركن الأساسي، وعندما نقرأ الاستعمار في جَنُوب أفريقيا، والجزائر، وفيتنام... نستشعر حقيقة هذا الأمر، وفي ذات السياق من الطبيعي أن يلوم الاحتلال المقاومة حول ما يجري فذلك جزء من الحرب النفسية التي يشنها الاحتلال ضد بيئة المقاومة، أما الذين يُشاطرون الاحتلال هذه الفكرة فهم أما يعانون من الهزيمة الداخلية وعدم القدرة على المواجهة، وأما من زاوية أخرى هو الاستفادة من انعدام المقاومة لتحقيق المصالح الفردية والجماعية التي يكمن في عمقها الاقتصاد.
ومن زاوية أخرى تتربع هنا جدلية العبد والسيد التي تحدث عنها الفيلسوف هيجل، إذ تقول هذه الجدلية: " إن السيد يفرض على العبد الاعتراف به عبر الإنكار، وبهذه الطريقة ينشأ شكل من أشكال الوعي في المهيمن، إذ يدفع هذا الوعي العبد لأن يتعرف على الآخر على أنه سيد ويتعرف على نفسه على أنه عبد"، ونقصد بشركاء الاحتلال هنا هم وكلاء الاحتلال من حزبيين أو مثقفين أو برجوازيين وطنيين والذين وصفهم "فرانز فانون" من قبل في كتابه "معذبو الأرض"، وأكثر الذين تحدث عنهم أيضًا الشهيد الأديب غسان كنفاني قائلًا: "في الوقت الذي كان يناضل فيه بعض الناس، ويتفرج البعض الآخر، كان هناك بعض آخر يقوم بدور الخائن".
في الختام يبقى هناك من يُمارسون الحياد أمام ما يجري حول جدلية السؤال، وفي هذا الصدد يقول "فرانز فانون": " إن الحياد هو ثمرة من ثمرات الحرب الباردة فهو يتيح للمدن المتخلفة أن تتلقى معونة اقتصادية فقط، لذلك تتحلل من اتخاذ موقف"، والأمثلة على الحياد مما يجري في قطاع غزة حدث ولا حرج.
حتى نحاول التقرب من إنهاء جدلية سؤال من السبب يتطلب الأمر منا أولًا تعريف الاحتلال والموقف منه، وثانيًا تعريف المقاومة والموقف منها، واستنادًا لما سبق نستطيع أن نقول: إن الاحتلال هو التعبير الأضخم عن العنف ولولا العنف لما وجدت المقاومة، والأخيرة توجه سلوكها إلى مسبب العنف الأساسي وهذا هو الأمر الصحي، ولتحل جدلية السؤال، يتطلب منا التعرف على الوضع الحالي للأمور والتفكير بشكل منطقي، حيثُ الاحتلال لا يحتاج إلى مقاومة ليظهر عنفه وهيمنته، فالمقاومة تأتي كرد فعل طبيعي وإنساني. إذن، يكمن السبب الأساسي في العنف والقمع من جانب الاحتلال نفسه، وليس في ردود الفعل الطبيعية للضحايا، وهذا هو أخر من حرر في جدلية سؤال "من السبب؟".