جندي إسرائيلي مدجّج بالكامل، كعادة الجنود الإسرائيليين الذين يعزلون أجسادهم بثقل ملابسهم وعتادهم ودروعهم عن محيط المعركة، ولا ينسى الكاميرا المثبتة على خوذته، يجلس على ركبة واحدة يمسك كتابا، يفتحه من منتصفه، لأنّ الصدفة عادة تقود إلى منتصف الكتاب، ينظر إليه، وهو على الأغلب لا يحسن قراءة شيء منه، وخلفه مكتبة في جامعة الأقصى بغزّة تحترق!
اللقطة سينيمائية، وإن كانت تنتمي للأفكار المبتذلة والمكرورة، قارئ من خلفه مكتبة تحترق، إلا أنّ الابتذال المضاعف في كون اللقطة مصطنعة. لم يستنقذ الجندي الكتاب من مكتبة وجدها تحترق ليلتفت إليه قارئا، لكنّه هو الذي أحرق المكتبة، فأيّ قيمة في نظره إلى الكتاب؛ سوى أنّه أراد اللقطة؟!
لماذا ينبغي أن يكون للكتاب معنى وللمكتبة دلالة، وقد دمّر الاحتلال الجامعات والمدارس والمكتبات والمساجد وسوّى بها الأرض؟! هذا الجندي من تلك القذيفة، لكنّه يمعن في الابتذال الإجرامي بالبحث عن لقطة سينيمائية، إذ هو ليس أقلّ إجراما ولا أكثر افتعالا من ذلك الجندي الذي أهدى ابنته الطفلة في عيد ميلادها نسف بيت فلسطيني؛ صوّر تفجير البيت وأرسله لابنته، وبثّه للعالم! الابتذال والافتعال هو من جوهر الواقعة الاستعمارية الصهيونية.
وهذا بدوره ليس أقلّ سَفَها من حفنة الضباط والجنود الذين هنّأوا بعضهم لأنّهم قتلوا مسنّا أصمّ لا يحمل شيئا، ولا يقدر على فعل شيء. يدلّ هذا على الدوافع الانتقامية الغريزية العنصرية الجامحة نحو سحق غزّة وأهلها وإبادة معالم الوجود الإنساني فيها، بما هو وجود وحياة ونشاط وإبداع وابتكار وإضافة للعالم والبشرية، لكنّه يدلّ أيضا على جيش فاشل بالمعنى القتالي، يصعب عليه التعامل الاحترافي مع مسنّ أعزل، وبالمعنى النفسي، فالجيش النظامي غير قادر على ضبط انفعالات جنوده الغريزية وحجب أفعالهم المبتذلة عن العالم، لأنّ هذا الجندي من هذا الجيش وهذا الجيش من هذه الدولة، وذلك كلّه ما عبّر عنه بن غفير (وزير الأمن القومي الإسرائيلي) بعد قرار محكمة العدل الدولية: "مستقبلنا ليس منوطا بما يقوله الأغيار بل بما نفعله نحن اليهود"، فالعالم كلّه أغيار، والفلسطينيون "حيوانات بشرية"، وهذه المرّة على لسان غالانت (وزير الدفاع)، "والحيوان" لا يستحق مكتبة ولا تليق به القيثارة، حينئذ لا بدّ من معاقبة المكتبة التي توهم بها "الحيوان" آدمية غير حقيقية، ولا بدّ من سرقة القيثارة التي كان يلهو بها "الحيوان" دون أن يعرف ماذا يعني موسيقى!
في مشهد سينمائي بحقّ هذه المرة. مقطع فيديو، يظهر فيه جندي إسرائيلي يعزف على جيتار شاب فلسطيني ومن خلفه ركام الدمار في غزة، المشهد شديد الواقعية، فالجندي سارق من قبل ومن بعد، يعزف على ركام بيوت الفلسطينيين التي دمرّتها طائرات دولته للتوّ ويهتزّ راقصا على جثثهم التي أحرقتها قذائف دبابات جيشه، ثمّ هو يعزف بغيتار مسروق، والغيتار يعود لـ"حمادة"، اشتراه له والده قبل 15 عاما، حمادة يعرف غيتاره من مجرد النظر في الفيديو. هذا الفرق بين صاحب الغيتار وسارق الغيتار، كالفرق بين صاحب الأرض وسارقها. كلّ شيء واقعيّ تماما في هذا المشهد.
حكاية حمادة صاحب الغيتار، كحكاية حمزة مصطفى أبو توهة، الشاب اللغوي، مدرس العربية، وصاحب الكتب تأليفا وامتلاكا. قصف الاحتلال بيته في بيت لاهيا وفيها مكتبته، رأى في منامه قبل الحرب أنّ الاحتلال يقصف مكتبته، صار بعد الحرب ينبش الركام عن كتبه التي مزقتها قذائف الاحتلال ودفنتها تحت ركام بيته، ووالده الذي اشترى له أوائل كتبه وهو صغير يبحث كذلك لابنه بعدما كبر وصار أستاذا متخصّصا في العربية وعلومها؛ عن كتبه من تحت الركام! يبلغ الأمر بحمزة أن يشتري الكتب وهو نازح، ينتقل من مكان لآخر، وهو يعلم أنّ حملها ترف في هذا الظرف. ذاك الجندي يأخذ لقطة مفتعلة مع كتاب بعدما أشعل النار في المكتبة التي استلّ منها الكتاب، وهذا الفلسطيني يبحث عن الكتب بين دخان الانفجارات ويلاحقها حيثما كانت في غزّة رغم النزوح المستمر.. إنه الفرق بين الدعيّ وبين الحقيقي!
ما معنى أن نتحدث عن مكتبة وقيثارة وقد قتل الاحتلال حتى الآن أكثر من 36 ألف فلسطيني وجعل في عداد المفقودين 10 آلاف وفي عداد الجرحى 81 ألفا، وفرض النزوح على أهل غزّة كلّهم بعدما سوى دورهم ومعالم حياتهم ونشاطهم بالأرض؟!
ليس المعنى في ذلك فقط في الدلالة على طبيعة الشخصية الاستعمارية الإجرامية الممعنة في افتعال الجريمة واصطناعها في مزايدة ذاتية على غريزته الانتقامية والعنصرية، ولكن أيضا في المقولة المملة والمستفزة عن "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، ولأنّ لهذه المقولة رواجا في المجال الصهيوني غير الإسرائيلي، ولأنّ حياة الفلسطيني لا وزن لها عند هؤلاء، ولأن لهؤلاء ادعاءات ثقافية تافهة، يجدر أن نعرض لهم المرآة التي ينبغي أن يروا بها أنفسهم، مرآة يُشعل فيها الإسرائيلي مكتبة ليبحث عن لقطة سينيمائية، ويسرق قيثارة، لأنه سارق، ولكي يرقص على ركام بيت دفن تحته أطفالا ونساء! ينبغي أن يروا أنفسهم مجرّدة من الادعاء! الجندي "القارئ" من أمام مكتبة أحرقها بيده، والجندي "العازف" بجيتار سرقه على ركام بيت صاحبه؛ هو الصورة الحقيقية للأخلاقية المُدعاة للدولة الاستعمارية وأنصارها في العالم! هذه أخلاقهم وهذه ثقافتهم وهذه فنونهم، محض مساحيق زائفة وادعاءات تافهة لعنصريتهم التي تُستباح بها الكرامة الآدمية.
لكن الأهمّ دلالة في ذلك كله، هو الدلالة على الفلسطيني ومعنى عيشه في هذه البلاد وحقيقة الصراع حينئذ. ليست القضية دمارا وقتلا فحسب، ولكنها دفن لآمال وطموحات وحاجات كانت تملأ صدور الفلسطينيين والفلسطينيات في غزة، حياة من نوع مكتبة وقيثارة ومدرسة وجامعة ومؤلفات وفنون ونظر إلى الإمام. حاجات دفن الاحتلال الآلاف منها مرّة واحدة بدفن أصحابها أو تدمير عالمهم أو جعله مستحيلا.. إنّها الشجون التي لا حصر لها ولا حدّ لها.