مع امتداد أمد المعركة واستمرار العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة لزهاء سبعة أشهر حتى لحظة كتابة هذه السطور، ترتفع أسئلة وعلامات استفهام ويثور جدل بخصوص بعض الزوايا منها تقييم جدوى عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، باستحضار الخسائر الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني وتحديدا عشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمصابين، فضلا عن الدمار الشديد بالبنية التحتية في قطاع غزة، هذا إن لم نحسب خسائر المقاومة نفسها.
في بعض مشاهد هذا النقاش، وساحاته عادة وسائل التواصل الاجتماعي، ثمة من يرى المكاسب الاستراتيجية للعملية والحرب التي تلتها، بينما هناك من لا يرى سوى الخسائر التي سبق ذكرها. وهنا، ينتقل الحديث من تقييم الحدث إلى اتهام الأشخاص، بين التركيز على الخسائر لتبخيس إنجازات المقاومة من جهة وتجنب الخسائر وعدم الاكتراث بالناس من جهة أخرى، ومن البديهي أننا نعتقد أن كلا المنهجين غير سليم.
بالعودة لنقاش المقارنة بين مكاسب العملية والشهور التي تلتها من الحرب/العدوان على قطاع غزة، ثمة نقاط أساسية وجوهرية ينبغي استدعاؤها بين يدي هذا النقاش ولا يمكن البت في الأمر بدونها، وأهمها:
أولا، الحرب لم تضع أوزارها بعد بل ما زلنا في خضمّها، ما يعني صعوبة حساب المكاسب والخسائر المباشرة للحرب بشكل دقيق، بشكل طبيعي ومتوقع أولا وبفعل تكتم الاحتلال ثانيا، فما بالنا بتقييم نتائج الحرب وتداعياتها على المدى البعيد؟
ثانيا، نحن أمام حرب غير متناظرة، أي ليست حربا نظامية بين دولتين وجيشين يسهل معها حساب الرابح والخاسر بشكل مباشر في معظم الحالات (وليس جميعها بالمناسبة). وبالتالي فتقييم الحرب وتقدير المكاسب والخاسر ومن انتصر ومن هزم عملية معقدة للغاية؛ ليس لها معايير واضحة ومحددة ومباشرة.
ثالثا، التقييم وفق معايير بعيدة المدى وعدم الاقتصار على الخسائر البشرية المباشرة لا يعني التقليل من خسارتنا بالشهداء والجرحى والمصابين والمعوّقين ومن فقدوا عائلاتهم وبيوتهم وأعمالهم.. الخ. لا شيء يماثل أو حتى يقترب من خسارة الإنسان، ولا يمكن بحال التقليل من مأساة أهلنا في غزة، لكن تقييم نتائج الحرب وتبعاتها حصرا وفق الضغط الإنساني والوجداني والعاطفي لهذه الخسائر الفادحة سيقودنا لنتائج غير دقيقة ولا صحيحة، فالخسائر البشرية وحتى المادية كبيرة وكبيرة جدا في حالات حركات التحرر واختلال موازين القوى مع المحتل.
رابعا، بعض المكاسب التي تحققت من عملية طوفان الأقصى ذات طبيعة استراتيجية من شبه المستحيل طمسها أو عكس تأثيرها، وهي متعلقة بمسار القضية الفلسطينية ومسارها بشكل وثيق، مثل الفشل الاستخباري والعسكري وتآكل قوى الردع وتراجع الثقة بالجيش والدولة لدى الاحتلال، وتغير بعض المعادلات الإقليمية.
خامسا، لا يمكن التقييم بالنظر فقط إلى الخسائر الفلسطينية، ذلك أنه رغم عدم توازن القوى وتساوي الكفتين، إلا أن الجانبين -الاحتلال والفلسطينيين- تكبدا خسائر كبيرة بشكل نسبي لكل منهما، ولذلك فهما منذ مدة ليست باليسيرة في حالة من "عض الأصابع" كما يقال. كما أن تراجع الاحتلال النسبي في المفاوضات في الأيام الأخيرة مردُّه إلى استعصاء أوضاعه الميدانية وخسائره المستمرة وشبه يأسه من تحقيق انتصار ناجز، رغم كل ما اقترف من قتل وتدمير.
سادسا، لا ينبغي أن نتغافل عن أن من بين أهم أهداف الإجرام "الإسرائيلي" غير المحدود في غزة والذي وصل حدود الإبادة هو محاولة طمس إنجازات عملية طوفان الأقصى والتغطية عليها، بل ودفع الفلسطينيين للندم عليها و/أو انتقادها وتحميل مسؤولية ما يحصل من مجازر وجرائم حرب لمن وقف خلف العملية لا من نفذ الجرائم. ومع التنبيه لهذه الاستراتيجية، من المهم التحذير من التماهي أو التناغم مع خطاب الاحتلال وأهدافه بقصد أو عن غير قصد.
سابعا، بعض من يحمّلون المقاومة الفلسطينية مسؤولية الإبادة يعيدون ذلك لبعض "الأخطاء" التي شابت العملية مثل قتل و/أو استهداف "المدنيين الإسرائلييين". وهو ما يطرح سؤالا معاكسا؛ ماذا لو اكتفت عملية طوفان الأقصى بما كان مخططا لها من مواجهة "قوة غزة" العسكرية- الأمنية فقط، هل ثمة من يضمن ردة فعل الاحتلال؟ إن تحميل المقاومة مسؤولية ما حصل هو إقرار ضمني -غير مقصود غالبا- بأن النتيجة الطبيعية لما قامت به المقاومة هو الإبادة الحاصلة، أي شرعنة للإبادة وتبرئة للاحتلال.
ثامنا، حتى بدون عملية طوفان الأقصى، كان السياق الإقليمي يسير نحو تطبيع عربي شبه كامل مع الاحتلال وتأسيس نظام إقليمي يكون له فيها القيادة والريادة والامتياز (ناتو شرق أوسطي بالتعبير الأمريكي)، مع تصفية القضية الفلسطينية، الأمر الذي أكده خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الفائت.
هذا السياق يفترض حكما وبداهة تصفية العائق الأبرز أمام ذلك وهو المقاومة الفلسطينية، ما يعني عملية شبيهة بما يحصل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وقد ذكر نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري -الذي اغتاله الاحتلال لاحقا- أنه كان لدى حركته معلومات عن عدوان كبير كان الاحتلال سيشنه على غزة ومقاومتها في توقيت قريب، ولذلك كانت طوفان الأقصى عملية استباقية لهذا العدوان. هذا المعطى، الذي يغيب عن الكثير من الساعين لتقييم العملية، كفيل بهدم ادعاء مسؤولية المقاومة الفلسطينية عن الدماء التي أهرقت والمنازل التي دمرت في غزة.
في الخلاصة، تبدو محاولات تقييم نتائج عملية طوفان الأقصى والمواجهة التي تلتها بين الاحتلال والمقاومة سابقة لأوانها شيئا ما و/أو غير مكتملة العناصر على أقل تقدير، كما أن التقييمات التي تجنح لتحميل المقاومة أو حماس على وجه التحديد مسؤولية الإجرام الصهيوني غير دقيقة ولا أمينة ولا أخلاقية بالتأكيد.
شبيه بذلك تحميل حماس وباقي الفصائل الفلسطينية مسؤولية استدامة العدوان بعدم التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار حتى اللحظة، رغم أن الاحتلال ما زال حتى لحظة كتابة هذه السطور رافضا لفكرة وقف إطلاق النار ويريد فقط هدنة يستلم فيها أسراه قبل أن يستأنف العدوان والقتل والتدمير، وتصريحات نتنياهو وغيره في هذا السياق متواترة.
إن إسقاط هذا المعطى الجوهري والحاسم يعني أن من يحمّل الطرف الفلسطيني المسؤولية إما أنه جاهل بالتطورات وإما ذو موقف سلبي مسبق من حماس وفصائل المقاومة، أو هو يريد منهم الاستسلام لا التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، أو كل ذلك معا، علما أن الاستسلام نفسه -بافتراض حصوله- ليس حلا ولا ضمانة لعدم استمرار المجازر "الإسرائيلية"، والشواهد التاريخية ماثلة لم تُنسَ بعد فضلا عن التصريحات الحالية.
لا يعني كل ما سبق رفض عملية التقييم، بل والنقد، ولكنها دعوة لاستكمال عناصرها لتكون أداة إيجابية بنّاءة لا سلبية هدامة، والتنبه إلى أن إلقاء اللوم على المقاوم الذي يجابه الاحتلال هو ديدن الأخير الذي ينبغي التحذير من تبنيه من قبل بعض الأطراف قاصدة كانت أم غافلة.
إن استحضار المأساة البشرية والإنسانية في غزة ينبغي أن يدفع للتحلي بمزيد من المسؤولية التي تساهم في حقن الدماء، وليس التسرع والعبثية اللذيْن يساهمان في عكسه، وإلا كان الحرص على دماء المدنيين ادعاء فارغا ومزايدة رخيصة لا حقيقة وواقعا.