يمكن أن يُفهم أمران من المقترح الأمريكي للمرحلة الأولى من الهدنة بين المقاومة الفلسطينية في غزّة وفي طليعتها حركة حماس، وبين الكيان الإسرائيلي..
الأوّل استدامة هذه الهدنة بحسب التعبير الأمريكي، ليفيد هذا التعبير، ووصف المقترح بكونه مرحلة أولى؛ طموحا بالانتقال إلى مرحلة ثانية، بالرغم من أنّ المقترح، وباستثناء وصفه بأنّه مرحلة أولى، لم يتحدث عن أيّ شيء بخصوص المرحلة الثانية.
هذا الأمر بحاجة إلى قدر كبير من الحذر حين الحديث عنه، لأنّه متصل بالنوايا الأمريكية الغامضة، والتي لم تزل تعطي إشارات متناقضة بخصوص هذه الحرب ومآلاتها، ولأنّ الولايات المتحدة تصوغ اقتراحاتها على طاولة واحدة مع الإسرائيلي، فالحرب حربها، وهي جزء منها، ولولاها لما كان الحديث الآن عن مجاعة أو عن إبادة جماعية. والحاصل، حتى لو أرادت أمريكا نهاية للحرب، فهي النهاية التي تؤكّد فيها حرصها على الإسرائيلي أكثر من حرصه على نفسه.
يبقى الأمر الثاني، ممّا يمكن أن يُفهم من هذا المقترح، وهو أنّ أمريكا لا تريد لضجيج الحرب أن يبقى مرتفعا في رمضان، أمّا في شوال وما بعده، فلا بأس بذبح الفلسطينيين وتجويعهم واستكمال تدمير ما تبقى من نزر يسير مع معالم الحياة الحضرية في قطاع غزّة، والدفع بما أمكن من الفلسطينيين إلى خارج القطاع، في محاولة إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين لم تزل تخامر عقول الإسرائيليين جيلا بعد جيل.
لماذا هذا القلق الأمريكي من رمضان؟! يبدو الأمر محزنا ومضحكا في الوقت نفسه، ليس لأنّ المرء قادر على الضحك في هذا الهول الذي يفتك بالقلوب، ولكن لأنّ هذا العالم عبثي وساخر بنحو مريع وأكثر تعقيدا حتى من تلك المقولة السائرة "شرّ البليّة ما يضحك"، ونحن مادة السخرية والتجريب لهذا العالم المنغمر في عبثيته المنحطة!
دائما ما هنالك في الجنوب العالمي، وفي مشرقنا، رغبة جامحة لعقلنة عبثية العالم الشمالي، وصبغ سياسات الاستعمار الأبيض بالعبقرية والدهاء، فنصدق تصوّرات الرجل الأبيض عنا؛ ما كانت تصوّراته تلك مضمنة في سياسات عملية للهيمنة علينا واستباحتنا. قد نكذّب تصوّراته ما دامت في دائرة الثقافة، لكن إذا انتقلت إلى السياسة، نصدّقها! لماذا مع أنّها أكثر سخرية لمّا صارت سياسات فعلية؟!
أوّل الأفكار العبثية التي يجدها المرء تحوم في هذا الفضاء الساخر، هو أن تبدو أمريكا رحيمة. كم أنّ هذه الفكرة مهينة! فليُنظر إلى احتمالات الرحمة الأمريكية. لا بأس أيها الفلسطيني من قتلك في جميع شهور سنتك القمرية، باستثناء رمضان. يمكن تخيل بايدن ومعه أركان إدارته يستمعون لمسؤول رفيع في واحدة من وكالات الأمن القومي الأمريكي، ربما وليام بيرنز نفسه، مدير C.I.A، متحذلقا وهو يسرد عليهم بفخر أسماء الشهور العربية، ويشرح لهم موقع رمضان بين شعبان وشوال، وينوّه مهتمّا بأن اليوم الأوّل من شوال يحسن فيه التوقف مؤقتا عن إبادة الفلسطينيين لأنّه يوم عيد عند المسلمين!
يُذكر ذلك بنقاشات اللجنة الأمريكية لاختيار المدن اليابانية لتلقي القنابل الأمريكية الذرية، أمين الحرب حينها هنري لويس ستيمسون استثنى مدينة كيوتو اليابانية؛ لأهميتها الثقافية للشعب الياباني، ولأنّه وزوجته قضيا فيها شهر عسلهما! لا ينبغي أن تُنسى تسمية أمريكا لقنابلها النووية على اليابان، "الولد الصغير" على هيروشيما، و"الرجل السمين" على ناكازاكي، لكن ما ينبغي تذكره بنحو أخصّ هو ما سبق ونشرته الواشنطون بوست في وقت سابق في كانون الأول/ ديسمبر 2023، على لسان مسؤولين في إدارة بايدن قالوا إنّ رئيسهم لا يتعاطف مع الفلسطينيين بالرغم من كونه معروفا بالتعاطف مع الناس! حسنا لا يوجد وزير دفاع أمريكي قضى مع زوجته شهر العسل في غزة!
لماذا يحسن الكفّ عن إبادة الفلسطينيين مؤقتا في رمضان؟!
قد يتحذلق عربيّ هذه المرة، يمارس اغترابا على نفسه، مُعقلنا هذه الرغبة الأمريكية، بالقول إنّ أمريكا تخشى إثارة المشاعر الدينية للعرب والمسلمين، الذين ترتفع فيهم تلك المشاعر أثناء الشهر الكريم، بما في ذلك الإحساس العميق بالتراحم والتكافل، وهم يحدثون بعضهم بين ركعات التراويح عن الفلسطيني الذي يباد صائما ولا يجد ما يأكله على إفطاره، ولعلّ وعاظ التراويح يجرؤون ويذكّرون بانتصارات المسلمين في "شهر الجهاد"!
لا ينبغي أن يتوهم العرب والمسلمون شيئا غير صحيح عن أنفسهم، فلماذا تحرّكهم إبادة الصائم في رمضان ولا تحرّكهم إبادة الجائع في شعبان؟! الجائع لا بالحصار الإسرائيلي فحسب، بل بالامتناع العربي/ الإسلامي المطبق عن إدخال قوافل المساعدات المكدسة في الحدود المصرية مع غزّة! فليكن عجزا أو تخاذلا أو تواطؤا، النتيجة واحدة، والعجب حينئذ ممن يصرّ على نفي الخيانة المتعمدة والتواطؤ المقصود في هذا الموقف العربي!
يصل الأمر ببعض المثقفين العرب إلى القول "لا ينبغي تفسير سلوك الأنظمة العربية نحو غزة بالخيانة، إنها المصالح"! وكأنّ هذا الهوس بنفي المؤامرة، كي نكون عقلانيين، يغيّر من الأمر شيئا! أليس هذا أشدّ سوءا وفحشا وشرّا وانحطاطا حينما تكون مصلحة أنظمة عربية في إبادة الفلسطينيين وتجويعهم حتى الموت، وأكثر من نصف مليار عربيّ ينظرون علاوة على ملياري مسلم؟! أي مصلحة هذه لأي نظام عربي في إبادة الفلسطينيين؟! وما الذي يجعل هذه المصلحة مختلفة عن مصلحة الإسرائيلي كي لا توصف بالخيانة أو التواطؤ؟!
سيقول المثقف العربي، إنّها ليست رغبة في إبادة الفلسطينيين بل رغبة في إبادة حماس! إذن ما الفرق بين هذا النظام العربي الراغب في سحق حماس ولو بتدمير غزّة وإبادة كلّ من فيها، وأي إسرائيلي أو صهيوني غربي يقدّم الذريعة نفسها بالقول إنّه "لا سبيل للقضاء على حماس إلا بهذا القدر من العنف الذي يدفع ثمنه مئات آلاف الضحايا الأبرياء"؟! أليس هذا كله موقفا صهيونيّا واحدا بحيث لا يصحّ التفريق بين المتماثلات؟!
سنتفق مع أمريكا، في أنّ هذه الأمّة لن تنسى ثأر الفلسطينيين في غزّة، نمتثل للحديث النبوي الشريف: "من قال هلك الناس فهو أهلكهم"، ونحسن الظنّ بأمّة موصوفة بالحديث على لسان سيّدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل أمّتي مثل المطر، لا يُدرى أوّله خير، أم آخره"، لكننا أيضا نعلم أنّ رمضان القادم لم يكن رمضان الفلسطينيين الأوّل الذي يستباحون فيه، ولا أوّل رمضان يُنتهك فيه مسجد (المسجد الأقصى) يفترض أنه مقدس لدى المسلمين الذين تحرّك بعض أنظمتهم سفهاءها لنفي القداسة عنه، ومن ثمّ يمكن لأمريكا أن تطمئن لحراسها على "إسرائيل" من جلادي شعوبهم، ولو إلى حين!