لأجل كل الرسائل الذاهبة مع الريح.. وتعويضًا عن كل التأويلات الموجعة لعدم تلقي أيّ رد، كانت ”رسائل لا تصل“، موئلًا أسبوعيًا للباحثين عن مسافة البوح بين خطوات من الخوف والتردد.
"نشأنا في عالم مرتبك من العلاقات".. هذا ما يريحني من مبررات أحشدها في رأسي حين أتعثر بتوصيف علاقتي بأحدهم، وأظن من المهم أن يعرف الإنسان المسميات النسبية للبشر المحيطين به، ما الذي أثار هذه الفكرة؟ رؤيتك يا هاشم.
في ذلك اليوم، قال لي أحد زملاء العمل - على غير عادته - كأنه يسرّب معلومة يدرك أنها تهمني "واسيني الأعرج في رام الله، الساعة السابعة تمامًا في متحف محمود درويش"، وأنا التي لم تكمل "طوق الياسمين" واكتفت من هذا الكاتب بعبارات "فيسبوكية" يتشاطرها الأصدقاء المبهورون بأدبه، وحَكَمَت أنه وأحلام مستغانمي وياسمينة صالح، مثلث جزائري ينتمي إلى نفس المدرسة اللغوية والحسيّة.
نعم، فرحت. حتى لو لم أقرأ له نصًا كاملًا، كانت عباراته لذيذة النطق كافية لكي أذهب وأشاهده، وألتقط إلى جانبه صورة للذكرى، وربما أحصل على توقيعه.. فكاتب جزائري مثله، لا يتوفر في الوطن المحتل دائمًا.
لن أحني ظهري وسمعكَ للتفاصيل التي انتشلتني من قيلولتي إلى المتحف ذاك المساء، لكن تكفي عبارة قالها الأعرج أمام الجمهور الفلسطيني الذي جاء للتشابك مع لغته عن قرب، "الصدفة تلاحقنا، ولسنا من يجري خلفها".
كنت أتابع الاحتفاء بالكاتب و "مريديه" عن كثب، وأناقش مع وحدتي الثنائيات الحاضرة على المدرج المقابل للأعرج، إضافة إلى البروتوكولات من الأسئلة والأجوبة التي تدل على أن الجمهور يشبهني في ضيق المعرفة بنتاجه الأدبي، وترتيب المصورين الذين يتقنون عبارة "ابعدي.. ابعد" (ابتعد، ابتعدي) كي يخرجوا بواقع تصويري نقي من بشر "يكزدرون" أمامهم، ولا أنسى الأطفال الثلاثة الذين استراحوا إلى العشب وعلت أصواتهم اللامبالية بهذا الطقس الأدبي الرائق، وأشعلوا ابتسامة في صدري حين مرّ راهب أمامهم فقال أحدهم "هاد مسيحي؟" وردّ آخر "محمد عساف مسلم، صح؟".. ربما لا أتقن الربط بين السؤال والسؤال، لكن "الرابط العجيب في بطن الطفل".
ها هو الأعرج يوقع الأمنيات الجميلة على كتب الجمهور، وأنا أحمل في يدي آلتي تصوير لفتاتين، الأولى تريد التقاط كل لحظة معه، والثانية طلبتُ منها توقيعه على دفتر مذكراتي مع مجموعة الكتب التي تحملها، مقابل أن أصورها.. لا أعرف سبب إزاحة الأعرج لدفتري حين جاء دوره، وتأجيله لوقت متأخر، لكن تأويلاتي أحزنتني "لُحَيظات".
أنا يا هاشم لا أوقع كتابًا لم أقرأه بعد، ولا تربطني به علاقة!
متحف درويش، الذي أزوره للمرة الأولى، مذ شيّعتُ المسمّى باسمه مع الجماهير قبل أعوام، كان مشروعًا لبعض الصور، وتركيب الهيئات في ذهني بين ما هو عليه الآن وبين الغبار والتراب الذي "عفّرنا" لحظة الدفن عام 2008. وشعاع من الغيرة يصيبني "لو أن قبري هكذا، حديقة ورد وألوان!".
مشروع الصور، وللصدفة، احتوى على ثلاثة صور لك، دون أن أعلم بذلك حتى تقابلنا. حقًا، كما شاهدت في أحد البرامج الوثائقية، أننا نرى الشيء الذي نمنحه التركيز فقط، ومهما دار حوله من أشياء وأحداث لا نراه، وكانت السارية نقطتي التي أِشغلتني عنك.
فعلًا، للوهلة الأولى لم أميزك حين أوقفتني، وتأكدتَ من اسمي باستفهام العارف. وصدقًا تفاجأت، حيث كان اللقاء صدفتي الأولى، والثالثة لك، كما أخبرتني، وحين ألمحتُ إليكَ بالرابعة، ضحكتَ بالطريقة التي أحبها، ولم أفتقدها يومًا منذ انقطاع أخبارك، حتى رأيتها اليوم. وأعتبر وصف "طفوليّ" لضحكتك نوعًا من الابتذال، إنه أجمل، لذا لن أستطيع تشبيهها، فشيء مثلها أولى بالتقبيل أو العناق بدل الوصف، لذا سأوكل المهمة لغيري.
لماذا يصعب علي أن أقول لك في لقاء عابر، إن ضحكتك جميلة؟ لماذا يصعب علي قولها لأي أحد إن خطر لي ذلك؟ لماذا نربط دائمًا الكلمات الجميلة بنوايا عشق مستترة أو الآراء التي لا تعجبنا بنوايا غيرة مبطنة؟ متى سيفهم العالمُ الفرق؟!
هذا ما أتحدث عنه تمامًا، العلاقات المرتبكة.
صحيح أنك كنتَ زميلًا في مقاعد الدراسة، ثم بات يريحني وجودك في جميع المحاضرات ويحزنني غيابك عن أحدها. صحيح أنني حاولت بناء صداقة بيننا من خلال الأخذ والرد في شؤوننا الأدبية وما زلت أذكر لك الجميل في نشر بعض نصوصي دون علمي، الشيء الذي أسعدني دائمًا.
تطورت العلاقة بيننا (من جهتي على الأغلب) إلى منافسة؛ حيث كان يحرّضني الاتزان في مقالاتك وتحليلاتك وسعة علمك، على ألا أكون أضعف منكَ ثقافة.. لكني مع هذا، لم أحاول يومًا توصيف هذه العلاقة، الشيء الذي أثاره سؤالك المازح "انسيتيني؟" وكأنك رأيتني البارحة، وكأني لا أرغب في رؤيتك الآن.
إنها الفكرة المقيتة، بأنني لم أنجز الكثير خلال مدة انقطاعك عن البلاد، وما زلت أدور حول ذاتي في نصوصي العشقية، ولا أخرج منها بعلاقة ناجحة. وحتى لو عنى اسمي للقصيدة قوة في الخيال، فإن المعنى في الحقيقة، يحمل ركاكة الحالة، التي لا تفضي إلى شيء.. فكيف ألقاكَ الآن، بتغييرات بسيطة لا تعني لي الكثير؟ وكيف أترك لك مجال السؤال "كيفك حالك؟" لا، لن أسمح لك.
أما ما بعد.. سأحتفظ به لنفسي، ولن أقول كل شيء.. نعم، لن أقول كل شيء.