أكثر من 23 يوم من التمهيد الناري بأطنان من المتفجرات، سبقت التحرك البري لجيش الاحتلال داخل حدود قطاع غزة، بدأه جيش الاحتلال بمناورات برية استطلاعية على محاور عدة شرق وشمال القطاع، تلاه تقدّم أوسع في محاور شرق مدينة غزة، ومحوري الحدود الشرقية والغربية لشمالي القطاع.
منذ بداية الحرب العدوانية على غزة، أعلن “نتنياهو” ووزير حربه أنّ خطوة التحرك البري في غزة قادمة لا محالة، وبدونها لا يمكن تحقيق أهداف الحرب بالقضاء على المقاومة، رافعين شعارات كبيرة حول التفكيك والقضاء وإنهاء وجود المقاومة في القطاع، مردفين أنّ جيش الاحتلال قادر وجاهز لأداء هذه المهمة وأنّ التحرك البري الذي اختلفت مسمياته على مدار الأيام بدءاً من الغزو البري وحتى التلميح لإعادة احتلال القطاع كاملا، مروراً بالاجتياح البري، وليس انتهاءً بالمناورة البرية الكبرى في القطاع.
رُهاب الشجاعية
آثر الاحتلال أن يبدأ تحركاته البرية بتحرك الآليات الاستطلاعي على عدة محاور في القطاع، معلنًا أنّها أنشطة برية استخباراتية وعملياتية، ولكنّ الواقع مغاير تماماً فهذه التحركات التي جوبهت بمقاومة كبيرة كان هدفها الرئيس استطلاعي، لأراضي القطاع وتجهيزات المقاومة بعد التمهيد الناري الضخم من الجو على مدار أيام الحرب.
إلى جانب الهدف الاستطلاعي، حرص قادة جيش الاحتلال على تقديم نماذج عملياتية من الميدان لجنودهم، أنّ غزة لن تبتعلهم فور الدخول إليها، وذلك في مواجهة “رُهاب الشجاعية” الذي يعاني منه العديد من جنود الاحتلال سواء من خاض تجربة الدخول البري للقطاع في حملات عسكرية سابقة وخصوصاً في العام 2014، أو سمع من الجنود الآخرين عن تجاربهم في القتال على أراضي قطاع غزة.
تَشكّل رُهاب الشجاعية بفضل استبسال المقاومة في التصدي للآليات الصهيونية التي حاولت التقدّم عام 2014 شرقي قطاع غزة، وقد خاض مقاومو الشجاعية والزيتون معارك شرسة ضد الآليات الصهيونية كان أبرزها تفجير ناقلة الجند التي تمّ الإجهاز على كل من فيها وخطف الجندي “شاؤول آرون” من داخلها شرقي حي الزيتون، وهذا السيناريو الذي بات يخيّم على عقول جنود الاحتلال حول مصيرهم فور التقدّم بالقطاع.
الأرض المحروقة
يعرف قادة جيش الاحتلال أنّ التحرك البري في قطاع غزة ليس نزهة، وذلك لعدة اعتبارات، جزء منها ذاتي مرتبط بقدرات جيش الاحتلال ومستوى الكفاءة لدى القوات البرية في جيش الاحتلال الذي باتت قدراته البرية محدودة بسبب نقص الخبرة العملياتية والارتكاز المبالغ فيه على التكنولوجيا وأدوات القتال عن بُعد، واعتماد جيش الاحتلال في غالبية حملاته العسكرية وعملياته على سلاح الجو، والفشل الذريع للقوات البرية الذي بدا جلياً في جنوب لبنان 2006 ولم ينتهِ في قطاع غزة 2014، وهذا هو الرأي الذي نقله الجنرال المتقاعد والخبير المخضرم “يتسحاق بريك” إلى رئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتنياهو” خلال مشاورات ما قبل التحرك البري الحالي في القطاع.
من جانب آخر، فالأمر مرتبط تحديداً بقطاع غزة، وبالرغم من أنّ القطاع عبارة عن سهل ساحلي محدود المساحة وبدون عمق جغرافي أو بيئة تضاريس تسمح بمناورة واسعة، إلا أنّ المقاومة الفلسطينية على مدار سنوات نجحت في تحويل المستحيل إلى واقع، وخلّقت بيئة عملياتية معقدة وصعبة داخل القطاع، قد أُعدت جيداً لتحويل أي محاولة لاجتياح القطاع برياً إلى جحيم من النار بحقّ القوات الغازية. استخلصت المقاومة العبر والدروس لسنوات طويلة، فتحولت من محاولة سابقة للتقدّم البري إلى موضع دراسة وتحليل واستفادة من الثغرات ومن مواضع النجاح، لتحصين القطاع في مواجهة أي تقدّم بري.
هيّأت المقاومة أرض القطاع لتكون بيئة قتال مدن مثالية لتحويل أي مواجهة برية إلى سيناريو من الموت المزروع في كل زاوية وزقاق في مواجهة القوات البرية الصهيونية بمختلف تشكيلاتها بدءاً من المدرعات وانتهاء بالمشاة، واستعدت لمواجهة العديد من السيناريوهات على مدار سنوات طويلة من التجهيز والإعداد والتدريب، وخلقت واقعاً يعي الاحتلال تماماً مدى تعقيده لدرجة تقديره بأنّ تحت غزة مدينة كاملة من الانفاق الذي وصفه بأنّه “مترو حماس” تحت الأرض يخدم الأهداف العملياتية الهجومية والدفاعية للمقاومة.
في مواجهة هذا الواقع وهذه البيئة، وخصوصاً إحباط وتحييد الكمائن المُعدة مسبقة والأنفاق الهجومية للمقاومة، عمد الاحتلال إلى قصف القطاع بأطنان من المتفجرات التي لم تتوقف حتى كتابة هذه الكلمات، مستخدمة مختلف أنواع القنابل المُعدة لاختراق التحصينات، والتي تزودت بها من الولايات المتحدة الأمريكية، وحولت أراضي قطاع غزة إلى أراضي محروقة، وأولت خصوصية كبيرة إلى المحاور التي تنوي التقدّم برياً منها، حيث حرقت الأخضر واليابس سعياً لفتح طريق آمن أمام الآليات والجنود.
مسارات ملتفة للوصول لقلب غزة
قدّرت غرفة عمليات هيئة الأركان في جيش الاحتلال جيداً مستوى التحديات العملياتية القابعة في أرض القطاع، خصوصاً بعد فشل مخطط تهجير أهالي محافظتي الشمال وغزة من مساكنهم إلى جنوب القطاع، وعدم النجاح في إفراغ المربعات السكانية الكثيفة من أهلها، مما دفع جيش الاحتلال للبحث عن الهروب من المواجهة باختيار مسارات تسمح له بالوصول إلى قلب مدينة غزة، وتحديداً غربها دون الاضطرار للاحتراق في نار جباليا والشجاعية والزيتون، وهو ما دفعه للتقدّم عبر محاور الشمال الغربي والشرقي الجنوبي.
اختار الاحتلال أن يلتفَّ حول غزة وشمالها، وتقدّم عبر المسارات التي تُشكّل الأراضي الزراعية والفارغة الجزء الأكبر منها، وسبقها بغطاء ناري كثيف وكبير جداً طال كل ما هو موجود في هذه الأراضي، ونسف تجمعات لأبراج سكنية ستكون في طريق قواته المتقدّمة من الشمال الغربي إلى غرب مدينة غزة، خصوصاً أبراج المخابرات والكرامة والمقوسي، ليؤمّن لجيشه مسار تحرك بعيداً عن نيران القناصة ومضادات الدروع، والأمر في سياق التقدّم من شرق جنوب القطاع عبر محور المغراقة وصولاً لتل الهوا، وهي الطريق التي مهّدها بقصف المنشأت التي تعترض طريقه بما فيها أبراج الزهراء لذات الهدف الذي ذكرناه سابقا.
يعرف الاحتلال أنّ “تفكيك البنية التحتية للمقاومة” هو هدف غير واقعي فالمقاومة تجاوزت هذه المرحلة منذ سنوات طويلة، ويعرف الاحتلال أيضاً أنّ مدينة غزة ليست مركزية في قدرات المقاومة أكثر من الشجاعية أو خانيونس أو البريج أو رفح أو أي مدينة أو مخيّم آخر، فالمقاومة تعمل وفق تشكيل أفقي تُشكّل فيه كل بقعة جغرافية عنوان ارتكاز فيه مقدّراته من التسليح والبنية التحتية والقيادة والتحكم والسيطرة.
لكنّ الهدف من الوصول لغزة، وخصوصاً غربها، هو الوصول للبقعة الجغرافية التي تُمثّل الثقل الإداري والاقتصادي في القطاع، والتي تشمل مقرات العمل الحكومي والمستشفى المركزي “الشفاء” والجامعات والبنوك، ليحقّق فيها صورة نصر يبحث عنها “نتنياهو”، وبالتالي هو يريد صوراً لجيشه في هذه المنشآت ليدّعي أنّه تمكّن من احتلال قلب غزة، بينما الواقع أنّ الجيش الذي لا يُقهر يبحث عن التسلل عبر الأطراف لخطف هذه الصورة.
حرب المدن وحُفر النار
بطبيعة الحال، فإنّ من أعدّ باحترافية لـ”طوفان الأقصى”، وضرب ضربته الاستراتيجية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وقضى على فرقة غزة، وأسقط كل منظومات التأمين والحماية والجيش في “غلاف غزة” بثلاث ساعات، بالتأكيد قد أعدّ نفسه جيداً للتعامل مع سيناريوهات التحرك الصهيوني الإجرامي، بما فيها التحرك البري الذي لطالما تجهزت المقاومة للتعامل معه، وتحويل آليات الاحتلال إلى عبرة لكل جيوش العالم.
منذ اللحظات الأولى للتقدّم البري الصهيوني ورغم تحركه في مناطق محروقة أمنياً وعسكريا، واجهت المقاومة الآليات المتقدّمة بحمم من نار، وتصدّت لآلياته، وحوّلت الدروس التي استخلصها الاحتلال من عدوان 2014 إلى عبرة جديدة، حيث فجرت المقاومة ناقلة “النمر” الآلية التي قدّمها الاحتلال باعتبارها الأكثر تحصيناً في العالم، وخلص إلى ضرورة أن تكون الوسيلة الأساسية في تحرك جنوده داخل القطاع.
نجحت المقاومة في تكبيد قوات الاحتلال خسائر كبيرة في الآليات والأرواح، واستخدمت مجموعة مختلفة من التكتيكات في التصدي، أهمها حُفر النار، أي الخروج من باطن الأرض عبر فتحات الأنفاق التي أعدّتها المقاومة سابقاً ومباغتة القوات الصهيونية، وتفجير الآليات بمضادات الدروع والعبوات الناسفة، واللافت في هذا التكتيك أنّ المقاومة قد باغتت قوات الاحتلال في المناطق التي مهّدها بأطنان من المتفجرات وهو ما يدلل على متانة تحصينات المقاومة وتماسك كمائنها في وجه القصف الصهيوني.
تستخدم المقاومة قذائف “الياسين 105” محلية الصنع في مهاجمة الآليات الصهيونية: دبابات الميركافا وناقلات الجند باختلاف أنواعها، وهذه القذائف هي قذائف ترادفية الانفجار تُشكّل نسخة محلية الصنع من قذائف “التاندوم” المضادة للدروع، ويُسجَّل للمقاومة نجاح قذائف محلية الصنع في تفتيت الآليات الأعلى تحصيناً في العالم، وتحويل هذه الآليات إلى مصائد لجنود جيش الاحتلال، كما أن كون هذه القذائف محلية الصنع يجعل من كميتها وفيرة في أيادي المقاتلين، وهو ما ظهر بوضوح في عدد الآليات المستهدفة منذ بدء الغزو البري، والإعلانات المتتالية للمقاومة عن استخدام هذه القذائف في عمليات التصدي.
تستخدم المقاومة أيضاً العبوات الفدائية، وهي عبوات مُعدّة خصيصاً لتفجير الآليات المدرعة لجيش الاحتلال، وقد تمّ تطويرها كجزء من استخلاص المقاومة لبطولات المقاومين في حرب 2014 بعد أن اضطر أحد المقاومين إلى التضحية بنفسه ممسكاً العبوة بجانب الجزء الضعيف من ناقلة الجند الصهيونية، ليضمن تحقيق العبوة المدى الأفضل، وهو ما حدا بالمقاومة إلى تطوير العبوة بحيث تحقّق الفعالية المطلوبة بدون اضطرار المقاومين للتضحية بأنفسهم، في ما تُسمى بالفدائية لأنّ إيصالها للنقطة المطلوبة في الدبابة يتطلب تحركاً فدائياً من المقاتلين للوصول لنقطة صفر.
إلى جانب القذائف المضادة للدروع المصنعة محلياً والعبوات الفدائية، استخدمت المقاومة المسيّرات في أكثر من عملية هجومية نجحت فيها بتحقيق إصابات مؤكدة، في ما بقي استخدام قذائف الكورنيت وسلاح القنص محدوداً حتى الآن في ما يُبشّر بأنّ المقاومة تستخدم أوراقها تدريجياً في التعامل مع الغزو البري وقد أعدّت نفسها جيداً لمعركة طويلة الأمد.
الاستخلاص الأهم في مجرى العمليات، أنّ بُنى وقدرات المقاومة، وقدرتها على التحكم والسيطرة وقدرات القيادة متماسكة رغم حجم العدوان الغاشم الذي يشنّه الاحتلال على غزة، في ما يُظهر التصدي البطولي للمقاومة للقوات المقتحمة في المناطق المحروقة والمفتوحة نموذجاً مُصغراً عما أعدّته له فور التعمق في القطاع، وأنّ بحث الاحتلال عن خطف صورة النصر من وسط مدينة غزة، وبالتحديد المناطق الغربية منها، سيتحوّل إلى مقبرة للاحتلال وآلياته، وسيُدرّس لأجيال حول تقنيات حرب المدن التي اتبعتها المقاومة في قطاع غزة ضد الغزو البري الصهيوني.