لا يختلف الفلسطينيون على الرغم من مشاربهم وخلفياتهم وخلافاتهم الكثيرة على أن تطبيع أي دولة عربية أو صديقة، قبل ودون على الأقل إنهاء الاحتلال وتجسيد الحرية والاستقلال لدولة فلسطين، يدعم حكومة الاحتلال، ويشجعها على مواصلة تنفيذ مخططاتها لتحقيق بقية أهدافها، التي تتمحور حول إقامة "إسرائيل الكبرى" من النهر إلى البحر، بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين، وهذا حتى يتحقق بحاجة إلى مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها، وطرد سكانها وتجميعهم في معازل منفصلة عن بعضها البعض، إلى حين توفر فرصة مناسبة لتهجير من لم يهاجر منهم هربًا من جحيم الاحتلال، وبحثًا عن فرص للعيش الكريم.
ولكن الفلسطينيين، وهنا أقصد تحديدًا القيادات والقوى والنخبة السياسية، يختلفون على الكيفية التي يمكن فيها منع تطبيع مزيد من البلدان، وعلى ردة الفعل على هذا التطبيع عندما يحدث.
آراء متباينة حول التطبيع
هناك رأي مفاده أن التطبيع خيانة للقضية الفلسطينية والمصالح العربية العليا، ويجب التعامل معه على هذا الأساس بما يفرض القطيعة، ورأي آخر مفاده أن الموقف المتشدد من التطبيع في مرحلة غياب المشروع العربي وانتشار التطبيع يعزل الفلسطينيين، ويضعفهم على ضعفهم، وبالتالي يجب التعامل مع التطبيع على قاعدة أن السياسة فن الممكن، وإذا لم يمكن منعه يمكن التعامل معه لتقليل أضراره ومضاعفة منافعه.
وهناك رأي ثالث يقف في المسافة بين الموقفين، فمن جهة يرى أن التطبيع خيانة، وأن القبول به أو التعايش معه أو التغطية عليه يساعد على حصوله بسرعة أكثر، وعلى ضم بلدان جديدة، ولكن من دون أن يعني بالضرورة الرفض الحازم للتطبيع القطيعة مع المطبعين؛ لأن هذا الموقف يعزل الفلسطينيين، فهناك فرق بين الموافقة على التطبيع ولو من خلال التغطية عليه، وبين رفضه مع احتفاظ بعلاقات على مستوى معين مع المطبعين؛ بهدف التأثير فيهم ومنعهم من مواصلة الانحدار أكثر وأكثر في هذا المسار.
ويجب ألا ننسى أن التطبيع بين القادة والحكومات لا يمتد إلى الشعب، فهناك رفض شعبي عربي كاسح في مختلف البلدان العربية التي طبعت أو في طريقها للتطبيع أو رافضة له، وهذا يتطلب مواصلة التفاعل والتنسيق مع القوى والحركات الرافضة للتطبيع؛ لأن الرهان عليها والمستقبل لها.
كما لاحظنا أن القيادة الفلسطينية تعاملت بصورة مختلفة مع البلدان التي طبعت، فهي قاطعت مصر بعد معاهدة السلام، وكانت في مقدمة جبهة الصمود والتصدي، ثم تجاوزت هذا الموقف، و أطلقت صفة الخيانة على الإمارات العربية عندما طبعت، وكانت رحيمة إزاء التطبيع المغربي، والآن تبدو أكثر رحمة وعلى استعداد للانخراط في العملية منذ البداية، كما تتعامل مع احتمالات التطبيع السعودي، وذلك يعكس تردي الموقف الفلسطيني في ظل الانقسام وفقدان البوصلة والرؤية بعد أن وصلت الإستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود، استنادًا إلى مسائل عدة، من ضمنها حاجة حكام السعودية إلى الغطاء الفلسطيني بحكم مكانة السعودية التاريخية وطموحاتها المستقبلية للقيام بدور قيادي عالمي.
تأخذ القيادة الفلسطينية موقفًا معاكسًا لمواقفها التقليدية، فهي لا تريد أن تكرر موقفها إزاء الإمارات، وتراهن من جهة على عدم إمكانية حصول التطبيع الآن بسبب العقبات التي تقف أمامه، وهذا أمر وجيه، فليس سهلًا تحقيق التطبيع في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، وتكسب بذلك السعودية، وتستأنف المساعدات السعودية للسلطة المقطوعة منذ فترة، وهناك أخبار أنها ستستأنف.
ومن جهة أخرى، إذا حدث التطبيع ستكون حاضرة في ظل وعد سعودي بأن الموضوع الفلسطيني سيكون حاضرًا من دون توضيح كيف، وهنا تظهر خطورة الأمر وتعقيده.
والشيء بالشيء يذكر، فإن حركة حماس تعاملت بشكل مختلف إزاء تطبيع المغرب، حين قام وفد عرمرمي برئاسة إسماعيل هنية بزيارة إلى المغرب بعد التطبيع، والتقى رئيس الحكومة سعد الدين العثماني لأنه ينتمي إلى حزب إخواني، وهذا أضعف موقفها المبدئي من التطبيع.
وفد فلسطيني إلى الرياض وموقف بين سقفين
أشارت وكالات الأنباء ومصادر إعلامية عديدة إلى أن وفدًا فلسطينيًا سيغادر إلى السعودية للبحث في المطالب الفلسطينية التي سبق وقدمت إلى الرياض، والتي تقوم على مستويين وسقفين في الوقت نفسه: الأول مبدئي أو مثالي كما يتم وصفه، وهو يطالب بأن تلتزم إسرائيل بالمبادرة العربية قبل التطبيع السعودي معها، والآخر وصف بالواقعي، يحاول أن يعيد إنتاج الماضي وخبرة اتفاق أوسلو السيئة في شروط أسوأ من السابق.
ويظهر ذلك في الحديث عن التزام أولي بالمبادرة العربية (وهذا مرفوض أميركيًّا كما ظهر في الاجتماع الذي وصف بالمتوتر الذي عقد في العاصمة الأردنية عمّان بين وفد فلسطيني والمسؤولة الأمريكية باربرا ليف، وطبعًا مرفوض إسرائيليًا)، على أن يتحقق خلال فترة انتقالية تستمر لسنوات عدة، وطبيعي أن يبدأ الساعون إلى التطبيع بالسقف الواقعي الذي سيتحول إلى الحد الأقصى للموقف الفلسطيني، على أن تشمل الصفقة الجاري التفاوض حولها بنودًا وخطوات حول الاستيطان، مثل تجميده وعدم إقامة مستوطنات جديدة، إضافة إلى توسيع صلاحيات السلطة في مناطق (ج)، والعودة إلى التزام الحكومة الإسرائيلية بالاتفاقات السابقة، وخصوصًا فيما يتعلق بالقدس، وفتح القنصلية الأميركية في القدس ومكتب منظمة التحرير في واشنطن، وتقوية السلطة عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا، والاعتراف الدولي بدولة فلسطين.
تفنيد موقف القيادة من التطبيع الإسرائيلي السعودي
يمكن تفنيد موقف القيادة بما يأتي:
أولًا: إن الرهان على عدم عقد الصفقة لا يشكل برهانًا كافيًا على صحة الموقف؛ فصحيح أنه من المستبعد التوصل إلى الصفقة بسرعة، ولكن المسألة لا تتسع فقط لاحتمالين لا ثالث لهما: إما نجاح الصفقة أو فشلها، وإنما يوجد احتمال ثالث لا يزال هو المرجح، وهو ألا يحدث الاختراق النوعي الآن، ولكن تُتخذ خطوات تدريجية على طريقه، فهناك فعلًا علاقات سعودية إسرائيلية متنوعة، عسكرية وأمنية وتكنولوجية واقتصادية، تجري باستمرار، وكثير منها تحت الطاولة، وفي أحيان عديدة فوقها، ولا يمكن أن يحدث التطبيع الإماراتي والبحريني والمغربي، وخصوصًا البحريني، من دون ضوء أخضر سعودي.
وفي هذا السياق، هناك مصادر تؤكد أن الرياض اتخذت قرار السلام الإستراتيجي مع إسرائيل، وأن البحث الآن على الشروط والتفاصيل والوقت المناسب، كما أن خطورة خيار الرهان على التسوية لا تبدأ إذا تحققت، بل منذ الوقوع أسرى هذا الوهم الذي يضيع الوقت والجهود، ويسبب التشرذم والانقسام، فمنذ ولادة وهم التسوية عبر التفاوض بعد حرب تشرين مضت عشرات السنين التي لم تتحقق فيها التسوية، وأصبحت القضية في أسوأ مراحلها، ومعرضة للتصفية تحت اسم التسوية.
ثانيًا: إن نجاح الصفقة وبغطاء فلسطيني من دون التزام إسرائيلي بالمبادرة العربية، خصوصًا بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967؛ يعني المشاركة في تصفية القضية، حتى لو كانت فيها موافقة على النقاط الأربع عشرة التي ذكرت وسائل إعلامية أنها مطالب فلسطينية.
أخطاء كبرى ارتكبتها القيادة الفلسطينية
يعيدنا هذا الوضع إلى الأخطاء الكبرى والإستراتيجية التي ارتكبتها القيادة الفلسطينية عشية اتفاق أوسلو وغداته، ولا تزال ترتكبها وبشكل أسوأ من السابق، على الرغم من النتائج الكارثية المترتبة عليها، وهي:
أولًا: تصور إمكانية التوصل إلى تسوية مع الكيان الصهيوني تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، من خلال المفاوضات والتنازلات وإثبات حسن السيرة والسلوك والجدارة؛ ذلك لأن الحركة الصهيونية وأداة تجسيدها إسرائيل برهنت مليون مرة أنها غير مستعدة لتغيير برنامجها الجذري وخصائصها وطبيعتها التكوينية الاستعمارية الاستيطانية العنصرية، ولا تقبل الحلول الوسط، وما يبدو أحيانًا في برامج حكومات إسرائيلية مرونة أو اختلافات في البرامج أو استعدادًا للتفاوض، فهو تغيير في الأساليب وأشكال التعامل والمخططات للوصول إلى الأهداف نفسها، وهي "إسرائيل الكبرى" بأغلبية كبيرة يهودية.
ثانيًا: لا تعتمد المفاوضات على ذكاء المتفاوضين وخبراتهم وقدراتهم، فهذا شيء ثانوي قد يحسن أو يزيد الأمر سوءًا؛ لأن نتيجة المفاوضات تعتمد أساسًا على ميزان القوى والعوامل والمتغيرات المؤثرة فيها، فلا يمكن تحقيق على مائدة المفاوضات ما لا يمكن تحقيقه بقوتك على الأرض، ولذلك إذا كان ميزان القوى مختلًا ضدك فليس من المناسب أبدًا أن تفاوض.
ثالثًا: من المفترض أن تستند المفاوضات إلى هدف نهائي متفق عليه، وإلى مرجعية واضحة وملزمة، مثل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. أما الانخراط في مفاوضات من أجل المفاوضات؛ أي سيدة نفسها، كما جرى سابقًا ويمكن أن يجري لاحقًا، فهي مفاوضات يتحكم فيها الطرف القوي، وحتى لو تم الاتفاق على مضامين لصالح الطرف الضعيف لا يلتزم بها الطرف القوي عند التطبيق. فكما لاحظنا لم تلتزم الحكومات الإسرائيلية كلها بأشكال متفاوتة بما وقعت عليه في أوسلو، بدءًا من حكومة إسحاق رابين التي وقعت الاتفاق وخرقت الالتزامات الإسرائيلية فيه، إلى حكومات شمعون بيريس وبنيامين نتنياهو وأيهود باراك وأيهود أولمرت، التي تتجاوز الالتزامات الإسرائيلية في أوسلو، وتطالب بالوفاء الكامل بالالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية، وصولًا إلى حكومتي نفتالي بينيت وبنيامين نتنياهو اللتين تتبنيان إقامة "إسرائيل الكبرى" بشكل واضح.
رابعًا: من أكبر الأخطاء التي ارتكبها المفاوض الفلسطيني أنه يبدأ المفاوضات من سقف منخفض، وليس كما يجب بالتمسك بالسقف الأعلى إلى حين توفر استعداد العدو للتوصل إلى تسوية، بل تصرّف في كل مرة بالبدء بسقف منخفض، ثم ينخفض بسقفه باستمرار من دون مقابل من الاحتلال؛ كما ظهر في أن المفاوض الفلسطيني تنازل عن سقفه التفاوضي الأعلى منذ البداية، كما لاحظنا في ما حدث، خصوصًا بالبدء بالاعتراف بحق إسرائيل في العيش بأمن وسلام من دون اعتراف إسرائيلي بأي حق من الحقوق الفلسطينية، فحكومة رابين اعترفت بمنظمة التحرير، وبروتوكولات الاجتماع التي أقرت فيه اتفاق أوسلو التي نشرت أخيرًا؛ تدل على أن إقامة دولة فلسطينية لم تكن واردة عند رابين وبيرس، وأن ما قدمته في أوسلو تنازلات إسرائيلية أكثر مما ينبغي؛ لأنها تتنازل عن أرض وحقوق إسرائيلية مقابل وعود فلسطينية غير مضمون الالتزام بها.
في هذا السياق، حين يبدأ حامل السقفين المثالي والواقعي، فإنه سيبدأ عمليًا بالسقف الواقعي، وسينتهي إلى ما هو أقل، إلى قبول ما تطرحه الحكومة الإسرائيلية مع بعض التحسينات الشكلية، وهو حكم ذاتي محدود مقابل الالتزام بتأدية دور أمني لحماية الاحتلال.
علينا ألا نسقط من الحساب أن هناك جهودًا أميركية وأوروبية وعربية بذلت وستبذل لإقناع نتنياهو بإجراء تعديل على حكومته، وإدخال بيني غانتس ويائير لابيد أو أحدهما بدلًا من بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وهذا إن حصل سيرفع من احتمال عقد الصفقة السعودية الإسرائيلية من دون أن يرفع جوهريًا من سقف الموقف الإسرائيلي من الحقوق الفلسطينية، فحكومة إسرائيلية جديدة ستكون شكلًا أكثر مرونة، ولكنها ستتبنى جوهريًا مضمون الموقف الإسرائيلي نفسه الساعي إلى الضم والتهويد والتهجير.
وعلينا أن نتذكر أن الموقف الفلسطيني والعربي ابتدأ بتبني برنامج التحرير والعودة حتى هزيمة حزيران، ثم لاءات الخرطوم (لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات) على أساس شعار إزالة آثار العدوان ونسيان نكبة فلسطين، إلى قبول المفاوضات، وصولًا إلى عقد اتفاقية كامب ديفيد المنفردة واتفاق أوسلو ووادي عربة، إلى طرح مبادرة السلام العربية التي مثلت تنازلًا عن أصل الصراع وجذوره الذي بدأ في العام 1948 وليس في العام 1967، وذلك ليس من أجل تبنيها من إسرائيل التي قامت في اليوم الثاني لإقرارها عربيًا بشن عدوان واسع على الفلسطينيين، وإنما تعويض من السعودية والعرب للأميركيين على قيام سعوديين وعرب بتفجيرات 11 أيلول، ثم تم بعد ذلك قلب المبادرة العربية رأسًا على عقب من انسحاب كامل مقابل تطبيع وسلام كامل، إلى التطبيع مع إسرائيل من دون انسحابها أو حتى التزامها بالانسحاب من الأراضي المحتلة، بل ازدادت تعنتًا وتطرفًا، وكشفت عن مخططاتها العدواني والعنصرية كما لم يحصل من قبل.
الموقف المطلوب
التطبيع من أي بلد عربي أو إسلامي أو صديق من دون إنهاء الاحتلال خيانة للقضية الفلسطينية، ولا يجب القبول به أو التعامل معه أو التغطية عليه، خصوصًا في ظل الحكومة الكهانية التي تحكم إسرائيل، ولكن هذا يتطلب تعميق العلاقات مع الشعوب العربية، ولا يعني القطيعة مع الدول المطبعة، والتي يمكن أن تطبع، في ظل أن القطيعة لا يمكن أن تمنع حصول التطبيع، وأضرارها أكبر من فوائدها، ولكن يعني بذل أقصى الجهود لإقناعها بعدم التطبيع، وإذا طبعت العمل لكي تربط ما بين استمرار وتحسن العلاقات بينها وبين إسرائيل وبين وقف العدوان والاستيطان والعنصرية وإنهاء الاحتلال، وتغيير الموقف الإسرائيلي من الحقوق الفلسطينية، وليس التسليم بالأمر حتى قبل وقوعه، ولدينا مثال على ذلك يتمثل في "السلام البارد" الذي أقامته دول عربية مع إسرائيل، مثل مصر والأردن، فعلى الرغم من الرفض الضروري للتطبيع والعمل لوقف وإلغاء الاتفاقيات الموقعة، فإن هناك فرقًا بين التطبيع والتتبيع.
وهنا، ليس صحيحًا أن السياسة هي فن الممكن؛ أي قبول الواقع كما هو، وإنما هي فن تحقيق أفضل الممكنات؛ أي التعامل مع الواقع من أجل تحقيق أقصى ما يمكن وتحقيقه، وتغييره وليس تكريسه.
طبعًا، لو كان الموقف الفلسطيني موحدًا وفاعلًا، وينطلق من رؤية شاملة ويستند إلى برنامج وطني وواقعي قادر على التعامل مع الواقع من أجل تغييره لا الاستسلام له، لاختلف الأمر، وكان يمكن وقف التطبيع، خصوصًا أن إسرائيل تمر في أزمة غير مسبوقة، وأن الإقليم والعالم يتغيران، وعلينا أن نتغير لكي نؤثر ونحقق ما نريد، لا أن يأتي التغيير على حسابنا.