نفذ الشهيد خيري علقم يوم الجمعة الماضية عملية إطلاق نار أدت إلى مقتل سبعة إسرائيليين على الأقل في مستوطنة "نيفيه يعقوب" في القدس المحتلة، وفي اليوم التالي للعملية تم تنفيذ ثلاثة عمليات صغيرة على أيدي مواطنين فلسطينيين في عدة مناطق في الضفة الغربية المحتلة والقدس.
وجاء هذا التصعيد بعد يوم واحد من اقتحام جيش الاحتلال لمخيم جنين وقتل تسعة فلسطينيين بينهم أطفال ونساء، وموت أحد الجرحى متأثرا بإصابته في اليوم التالي. وخلال الأيام الثلاثة التي أعقبت عملية مستوطنة "نيفيه يعقوب" استشهد فلسطينيان، ما رفع عدد الشهداء الذين قتلهم جيش الاحتلال خلال شهر كانون الثاني/ يناير الماضي إلى 33 فلسطينيا.
ويشير تصاعد العمليات الفردية ضد الاحتلال، والذي لم يبدأ بعملية خيري علقم بل يمتد لسنوات عديدة، إلى أن النضال الفلسطيني ضد الاحتلال العنصري يدخل مرحلة جديدة.
فما هي الأسباب وراء هذه الظاهرة؟ ولماذا لا يستطيع الاحتلال وحلفاؤه الغربيون فهم الظاهرة والصراع الفلسطيني الإسرائيلي ككل؟
انسداد الأفق السياسي لدى الفلسطينيين، وفقدان أي أمل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، خصوصا بعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 بسبب تقديم مقترحات أمريكية و"إسرائيلية" لا ترقى للحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية. ويضاف إلى ذلك أن جيل الشباب الحالي (18-30 سنة) كان صغيرا أو لم يولد بعد أثناء الانتفاضة الثانية، وبالتالي فهو جيل متحرر من حسابات فقدان الأمل
لعل السبب الأول في ظاهرة العمليات الفردية هو غزو جيش الاحتلال للضفة الغربية وإعادة احتلالها والسيطرة عليها منذ عام 2002. لقد أنهى هذا الغزو تقسيمات المناطق "أ" (التي يفترض أن تكون تحت سيطرة السلطة الفلسطينية)، و"ب" (تحت السيطرة المشتركة بين الاحتلال والسلطة)، و"ج" (تحت سيطرة الاحتلال)، وفق اتفاقيات أوسلو. أدت إعادة الاحتلال للضفة لسيطرة الجيش الاحتلالي على كل مفاصل الحياة للشعب الفلسطيني بالضفة، وعززت هذه السيطرة من خلال المعابر والحواجز ونقاط التفتيش التي بلغت في العام 2019 مثلا حسب منظمة بتسيلم 174 نقطة. استطاعت قوات الاحتلال فرض رقابة صارمة على تشكيل خلايا للمقاتلين في الضفة بسبب سيطرتها عليها وبالتعاون مع السلطة عبر التنسيق الأمني، ما جعل الفلسطينيين يتجهون للأعمال الفردية التي يصعب مراقبتها كما هو الحال في العمل المنظم الذي يتطلب تشكيل خلايا يسهل تتبعها.
أما السبب الثاني لهذه الظاهرة فهو انسداد الأفق السياسي لدى الفلسطينيين، وفقدان أي أمل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، خصوصا بعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 بسبب تقديم مقترحات أمريكية و"إسرائيلية" لا ترقى للحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية. ويضاف إلى ذلك أن جيل الشباب الحالي (18-30 سنة) كان صغيرا أو لم يولد بعد أثناء الانتفاضة الثانية، وبالتالي فهو جيل متحرر من حسابات فقدان الأمل بتحقيق إنجازات وطنية عبر النضال والاشتباك مع الاحتلال، كما هو حال كثيرين من أبناء الجيل الذي كان حاضرا لأحداث تلك الانتفاضة ومآلاتها السياسية التي لم ترقَ لحجم تضحيات الشعب الفلسطيني خلالها.
ثمة عامل ثالث يتعلق بطبيعة النضال الفلسطيني نفسه سواء السياسي منه أو العسكري. فمن جهة، استطاعت سلطات الاحتلال والسلطة الفلسطينية القضاء على كثير من البنى التحتية للفصائل الفلسطينية، واعتقال قادتها أو قتلهم، وتجفيف منابع الدعم المالي والشعبي، وإقامة المزيد من الحواجز الثابتة والمتحركة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما أدى إلى إضعاف قدرة الفصائل على التحرك في الضفة الغربية. ومن جهة أخرى أضعفت دولة الاحتلال السلطة الفلسطينية من خلال عدم منحها أي إنجاز سياسي، وإفشالها في تحقيق هدفها الأساسي وهو التحول لدولة مستقلة. أصبحت السلطة الفلسطينية بعد فشلها في تحقيق أي إنجاز سياسي في نظر غالبية الشعب مجرد أداة للاحتلال عبر التنسيق الأمني، ولم تعد تمثل أملا للجيل الصاعد الباحث عن هويته الوطنية وكينونته المستقلة.
لقد أدت هذه العوامل الثلاثة: السيطرة على حياة الفلسطينيين، إضعاف السلطة والفصائل، وإفشال السلطة وتفريغها من مضمونها السياسي؛ إلى تصاعد ظاهرة "العمليات الفردية" وتحول جيل جديد من الشعب الفلسطيني للنضال الفردي، بحثا عن الخلاص الوطني، بعيدا عن السلطة، وبعيدا عن الفصائل التي لا يعرف بالضبط دورها في هذه الأعمال الفردية رغم انتماء بعض منفذي العمليات لفصائل مقاومة، خصوصا حماس والجهاد الإسلامي.
ولعل الإحصائيات التي تصدرها سلطات الاحتلال تبرهن على أن العمليات الفردية باتت ظاهرة حقيقية، حيث تقول وكالة الأمن الإسرائيلية "شين بيت" إن الفلسطينيين نفذوا 1570 هجوما في العام 2021 أدت إلى مقتل 25 إسرائيليا، فيما نفذ خلال عام 2022 1933 هجوما أدت لمقتل 29 إسرائيليا. وقد كانت غالبية هذه الهجمات على أيدي مقاتلين أفراد وليس عملا فصائليا.
لماذا تفشل إسرائيل وحلفاؤها الغربيون في فهم الظاهرة؟
تظهر طريقة تعامل الاحتلال مع ظاهرة العمليات الفردية أنها ستفشل كما فشلت دائما بالوصول إلى أصل الظاهرة ووضع حد لها. يبدو ذلك مثلا من خلال تعاطيها مع عملية "خيري علقم" في مستوطنة "نيفيه يعقوب"، حيث لجأت لاتخاذ قرارات من العقاب الجماعي ضد الشعب الفلسطيني إضافة لزيادة تسليح المستوطنين في الضفة الغربية، بدلا من التعامل مع أصل المشكلة الحقيقي وهو الاحتلال. يرفض قادة الاحتلال دائما فهم الدرس التاريخي المباشر، وهو أنه طالما هناك احتلال وليس هناك أمل فإن هناك مقاومة.
ولكن، إذا كان الأمر بهذه السهولة، فلماذا يفشل الاحتلال وحلفاؤه الغربيون بفهمه؟
إن التفسير الوحيد لهذا الاستعصاء بالفهم هو الاستعلاء والشعور بالتفوق اليهودي والأبيض لدى سياسيي الاحتلال وحلفائه. لا يرى أدعياء "التفوق" العنصريون من سياسيي الاحتلال وحلفائه الغربيين الفلسطينيين كـ"بشر" يستحقون الحقوق الإنسانية البسيطة والمجردة. لا يؤمن هؤلاء العنصريون بأن الفلسطينيين يستحقون تقرير مصيرهم أو يملكون حق المقاومة للحصول على حريتهم واستقلالهم. ولذلك، فإن أيديولوجيا "التفوق" العرقي تستطيع أن تفسر لنا سياسات وتعليقات السياسيين الإسرائيليين والغربيين تجاه الحقوق الفلسطينية.
ولنأخذ، على سبيل المثال، تصريحات الرئيس بايدن عقب اتصاله برئيس حكومة الاحتلال نتنياهو يوم الجمعة الماضية، حيث قال إن الهجوم في مستوطنة "نيفيه يعقوب" كان "هجوما ضد العالم المتحضر". هكذا تكون الحكومة الأكثر يمينية لنظام احتلالي، وفصل عنصري، والتي يقودها فاشيون مثل إيتمار بن غفير وبيزائيل سموتريش تمثل العالم المتحضر بالنسبة لرئيس الولايات المتحدة!
وبحسب وجهة النظر هذه، لا توجد هنا أدنى علاقة بين التحضر وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان والالتزام بالشرعية والقرارات الدولية، بل هي مجرد وصف تحصل عليه أي دولة تمتلك أسلحة مدمرة وطائرات حربية وأسلحة نووية، تستطيع من خلالها قتل شعوب العالم "غير المتحضر"، ولكنها في نفس الوقت تحصل على الحصانة "والإفلات من العقاب" لأن بقية "العالم المتحضر" ستحميها وتدافع عنها في مجلس الأمن!
تعتبر أيديولوجيا "التفوق اليهودي" أمرا متجذرا في الخطاب الصهيوني السياسي، لدرجة أنه قد تمت "قوننته" من خلال إصدار قانون "القومية" سيئ الذكر الذي جعل الفلسطينيين في "إسرائيل" مواطنين من الدرجة الثانية أو العاشرة. تكشف تصريحات المسؤولين في دولة الاحتلال هذه الأيديولوجيا أيضا، ومن ذلك تصريحات رئيس حكومة الاحتلال الأكثر استمرار في المنصب نتنياهو، الذي أكد في تصريحات سابقة "أن إسرائيل هي الدولة الوطنية لليهود، واليهود فقط"، وليس لجميع مواطنيها.
أما السياسي الكاهاني الفاشي الصاعد، الوزير بن غفير، فقد قال في مقابلة تلفزيونية إن "الفلسطينيين الذين لا يؤمنون بإسرائيل يجب أن يرحلوا من بلادهم"! لا يمكن لمثل هذا التصريح أن يصدر إلا عن شخص يؤمن "بالتفوق العرقي"، حيث لا يمكن إلا لمثل هؤلاء الفاشيين أن يعتقدوا أن شخصا طبيعيا يمكن أن "يؤمن" بمحتليه ومضطهديه.
المشكلة الحقيقية في مثل هذه التصريحات الغربية والإسرائيلية ليست في وقاحتها فقط، بل في أنها تشكل الأساس الذي تبنى عليه سياسات وقرارات تمنع أي فرصة لفهم الصراع على حقيقته. كما أنها المحرك الرئيسي لمحاولة وقف النضال الفلسطيني من خلال التعامل مع الفلسطينيين كـ"رعايا" يمكن إسكاتهم عبر "العقاب الجماعي" أو العقوبات أو الامتيازات الاقتصادية
ورغم وقاحة تصريحات نتنياهو وبن غفير، إلا أن الفاشي الآخر في حكومة نتنياهو بيزائيل سموتريش كان أكثر وقاحة عندما هدد بوضوح أعضاء الكنيست العرب وغيرهم من المسلمين الذين "لا يقبلون بحكم اليهود"، وهو ما يعني ضمنيا أن على الفلسطيني أن يقبل "التفوق اليهودي" وإلا فإنه سيطرد من بلاده!
إن المشكلة الحقيقية في مثل هذه التصريحات الغربية والإسرائيلية ليست في وقاحتها فقط، بل في أنها تشكل الأساس الذي تبنى عليه سياسات وقرارات تمنع أي فرصة لفهم الصراع على حقيقته. كما أنها المحرك الرئيسي لمحاولة وقف النضال الفلسطيني من خلال التعامل مع الفلسطينيين كـ"رعايا" يمكن إسكاتهم عبر "العقاب الجماعي" أو العقوبات أو الامتيازات الاقتصادية.
وإذا استمر السياسيون الغربيون والفاشيون الصهاينة الذين يحكمون إسرائيل اليوم وقد يستمر حكمهم في المستقبل القريب بالامتناع عن رؤية الشعب الفلسطيني كبشر مساويين لغيرهم من الأمم، وإذا لم يقتنعوا بأن هذا الشعب يستحق العيش بكرامة والحصول على حقه بتقرير المصير، فإنهم سيعجزون دائما عن حل الصراع، وبدلا من ذلك فإنهم سيشعلون جذوة النضال الفلسطيني بشكل أكبر، في القدس والضفة الغربية وغزة وفي كل شبر من أرض فلسطين التاريخية.